تدقّ طبول الحرب مرّة أخرى في منطقة الشرق الأوسط، وفي كلّ مرّة تكون دولة الاحتلال الإسرائيلي وراء هذا التصعيد الخطير الذي يهدّد فعلياً الأمن والسلم الإقليميين، ويُعيد إلى واجهة الأحداث منطق القوّة والحرب كحلّ وحيد لحسم النزاعات.
والحال أنّ البشرية كان استقر عزمها بعد الحروب الكونية والإقليمية المدمّرة التي عرفها العالم على ضرورة العمل على حلّ النزاعات بين الدول وغيرها بطرق سلمية تضمن عدم جرّ الإنسانية من جديد إلى منطق الحروب الشاملة الذي قد يتسبّب بلا شكّ في دمار محقّق لعالم لم يستطع إلى الآن تغليب ثقافة السلام.
وليس من الصعب ولا من الخفيّ معاينة إرادة حكومة بنيامين ناتنياهو اليمينية المتطرّفة في دفع المنطقة إلى نزاع شامل أو على الأقلّ توسيع نطاق هذا النزاع بشكل يحرج الولايات المتّحدة ويُخرجها من تحفظاتها على السياسة الإسرائيلية التي من الواضح أنّها تقود المنطقة إلى صدام كبير يقود دول المنطقة إلى مرحلة الخطر الداهم ويهدّد بالتالي مصالحها القومية.
ولعلّ إقدام الكيان الإسرائيلي على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في إيران بالذات، لا يُراد منه فقط تصفية قادة المقاومة الفلسطينية التي يحمّلونها مسؤولية عملية «طوفان الأقصى» المهينة لدولة الاحتلال ولكن، الهدف المؤكّد هو خلق الشروط الموضوعية لدفع طهران إلى مواجهة مفتوحة قد تسهّل ضرب المشروع النووي الإيراني.
ويراهن نتانياهو على أنّ هذا الهدف هو قاسم مشترك بين إسرائيل والولايات المتّحدة وقد يفرض على إدارة بايدن المعارضة لتوسيع نطاق الحرب، ضرورة دعمها لتحقيق هذا الهدف المشترك، إذ لا يخفى على أحد أنّ الولايات المتّحدة تمثّل العمق الاستراتيجي لدولة الاحتلال ويحصل الإجماع داخلها على ضرورة توفير الدعم المطلق لها في كلّ الحالات ومهما كانت الكوارث التي تتسبّب فيها للمنطقة وحتّى للولايات المتّحدة ذاتها.
ويضع المراقبون التحرّكات العسكرية الأمريكية الأخيرة في هذا السياق، وهو ما يُفهم من تصريح نائبة الرئيس كامالا هاريس من أنّ «الدفاع عن إسرائيل ثابت» رغم تأكيدها على حتمية توفير شروط التهدئة التي تضمن عدم توسيع نطاق الحرب.
ولا مناص من الاعتراف بأنّ الخلاف الداخلي الأمريكي ليس على مبدأ دعم الكيان الإسرائيلي ولكن حول كيفية هذا الدعم وشروطه الدنيا، ولا مناص كذلك من الاعتراف بأنّ هذا الدعم جعل المجموعة الدولية تقف عاجزة عن فرض حلّ يستند إلى قرارات الشرعية الدولية على جورها في حقّ الفلسطينيين وهو دعم حال إلى حدّ الآن دون المنظومة القضائية الدولية والقيام بما هو منوط بعهدتها.
ومع ذلك لا يبدو أنّ هذه الدعوة وأيضاً دعوة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تجنيب المنطقة ويلات توسّع نطاق المواجهة تلقى صدى لدى حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلي. بلينكن يعتبر أنّ وقفاً دائماً لإطلاق النار في غزّة من شأنه أن يهيّئ شروط سلام دائم في المنطقة ولكنّ ناتنياهو مصرّ على استمرار عدوانه على غزّة وكلّ الأراضي الفلسطينية.
معتبراً أنّ استمرار عدوانه على غزّة يمثّل في حدّ ذاته ضمانة لاستمرار حكومته، بل هو يسعى بكلّ الطرق لفتح جبهة شمالية مع ميليشيا «حزب الله»، وباقي الفصائل، وفي المقابل لا نرى أنّ بعض هذه الفصائل مُجِدٌّ في إفشال هذا المخطّط الجليّ.
وفي حين تلقى الدولة الفلسطينية المستقلة في إطار حلّ الدولتين كما تقرّه قرارات الشرعية الدولية المزيد من الاعتراف والمساندة، تستصدر حكومة بنيامين نتانياهو قراراً من الكنيست الإسرائيلي بمنع قيام هذه الدولة، بل إنّ ناتنياهو ووزراءه المتطرّفين يوظّفون كلّ الفرص المتاحة من أجل توسيع العدوان إلى الضفّة الغربية من أجل القضاء على العنوان الأخير لمشروع الدولة الفلسطينية المستقلة.
ومن ذلك استغلال عملية تل أبيب الأخيرة التي أودت بحياة إسرائيلييْن اثنين، ما دفع وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى مزيد من تسليح المستوطنين والتفاخر بأنّه أسند 150 ألف رخصة سلاح جديدة خلال الثمانية أشهر الأخيرة.
إنّ حكومة ناتنياهو ومن ورائها كيان الاحتلال الإسرائيلي لا «يستقيم» حالها ولا تملك مقوّمات الاستمرار إلّا بتواصل الحرب وعلى جميع الجبهات، وهو أمر أضحى معلوماً، ولكنّ السؤال الأكبر المطروح هو، إلى متى يستمرّ الدعم الغربي وتحديداً الأمريكي لدولة رافضة لقانون دولي ولشرعية دولية كانت سبباً في وجودها؟
ونعتقد مع بعض المراقبين بأنّ التحوّلات على مستوى العلاقات الدولية والنزوع المستمرّ نحو عالم متعدّد الأقطاب هي من العوامل التي قد لا تخدم الاستراتيجية الإسرائيلية وقد تجبر الولايات المتّحدة على تعديل مواقفها وخصوصاً في التحولات الكبرى على مستوى الرأي العام الشبابي حول الموضوع ولا نكاد نعرف في التاريخ أنّ شعباً أراد الحياة وفشل في نيلها وكلّ شواهد التاريخ تُثبت أنّ «للباغي دولة ثمّ تدول».