المنطقة ليست على صفيح ساخن. هي على صفيح مشتعل ملتهب مرشح لمزيد من الاحتدام بين لحظة وأخرى. ورغم أن السخونة ليست جديدة، بل قديمة قدم القضية الفلسطينية، إلا أن الوقت الراهن يمكن اعتباره ضمن الأشد سخونة منذ العام 1948.

المسألة لم تعد تقتصر على حرب ضروس لا يعلم إلا الله متى أو كيف تنتهي. تمدد أطراف الصراع، وإفساح حلبة المعركة لتتسع لجبهات عدة يقول كل منها إنه يحارب أو يصارع أو يلاكم من أجل القضية، رفع حرارة المنطقة برمتها لتفوق درجة الغليان.

لم يحدث من قبل أن أصبح هذا العدد من الدول والجماعات والحركات والأفراد ضالعين في قضية سياسية وعسكرية، كل بحسب توجهاته وانتماءاته، ولا يخلو الأمر من مصالح وأهواء وتوازنات بعضها لا يمت للقضية الأصلية بصلة من قريب أو بعيد، اللهم إلا لغة التصريحات ومفردات التواصل.

يصعب تقدير عدد الدول والجماعات والكيانات الموجودة حالياً على الحلبة، ناهيك عن تلك الجالسة على «دكة الاحتياطي» ومقاعد المشجعين وبينهم من يخطط أو يتمنى أن ينخرط في المباراة بدلاً من الاكتفاء بالمتابعة.

يمكن القول أن ما لا يقل عن 20 دولة وشبه دولة وجماعة وحركة ووكيلاً موجودة على الحلبة الرئيسية، ومثلها ينتظر الضلوع. وللعلم فإن المتابعين من على بعد – حتى اللحظة- عندما يقررون الضلوع لا يتخذون خطوات استباقية، أو يحصلون على موافقة من الأطراف الرئيسية المتصارعة، بل سيستيقظ العالم ذات صباح ليجد أن المزيد قد انضم إلى المعركة.

هذه المعركة لم تعد فقط قضية شعب يبحث عن التحرر، بل تحولت إلى قوى ودول وكيانات تصارع من أجل إبقاء دول وقوى أخرى في دائرة صراع ودمار وخراب وقتل مغلقة، مع العمل على توفير عوامل الاستدامة.

الفقر المزمن والتطرف الديني والانغلاق الفكري والظلم بأنواعه والجهل (والذي لا يعني الأمية بل محدودية الرؤى وأنيميا الابتكار) والشعور الكاذب بالفوقية وفقدان الأمل وسيطرة الإحباط توليفة تضمن استدامة الحروب والصراعات. والحقيقة أن جميعها متوافر بدرجات مختلفة في دول عدة.

كسر الحلقة ليس سهلاً، لكن في الوقت نفسه ليس مستحيلاً. ولتكن البداية فك اشتباك المفاهيم الملتبسة، وما أكثرها.

على سبيل المثال، حين تقرر دولة في المنطقة أن تنهض بنفسها وشعبها رغم الظروف والمجريات المحيطة، فإن هذا لا يعني أنها «باعت القضية» أو «تخلت عن المسؤولية»، لا سيما وأن أحدهما لا ينفي الآخر. وحين يتم طرح حل أو تسوية منطقية، ترجح كفة المنطق وقابلية التنفيذ بدلاً من فانتازيا اللامعقول، فإن هذا لا يعني أن من طرح الحل خائن أو عميل، بل هو على الأرجح واقعي وقادر على التفرقة بين الحلم والعلم. والأمثلة كثيرة.

فرق كبير بين التهليل والصياح في بداية مباراة صعبة يوجه فيها لاعب لكمة قوية واحدة تستنفد كل قوته إلى أنف غريمه على حين غرة، وبين الانتظار لمتابعة بقية المباراة حيث اللكمات متبادلة والركلات مشتركة ونتيجة المباراة هي مجموع نقاط الجولات، لا الجولة الأولى فقط.

كل جولة منهكة. وفي منطقتنا الساخنة، تطال الآثار كل الدول بلا استثناء. ما يفرق بين كل دولة وأخرى هو مدى قربها أو بعدها الجغرافي والنفسي والتاريخي من «الحلبة»، ومدة قوة وصلابة أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الداخلية والتي تقيها شرور عدم الاستقرار.

الجولات باتت متلاحقة. عملية تعقبها حرب ضروس في قطاع أو دولة أصبحت فناء خلفياً للصراع الأصلي، عنجهية تؤدي إلى عناد، مسيّرة تشعل صفحة جديدة من صفحات حرب لم تخفت، بضعة صواريخ تؤرق ولا تقتل، اغتيال يعقبه المزيد من الضربات، مزيد من الضربات يوسع رقعة الصراع، يمتد الصراع ويطول أمده، يخفت قليلاً فيتم تنفيذ عملية تعقبها حرب ضروس في قطاع أو دولة أصبحت فناء خلفياً للصراع الأصلي، وهلم جرا.

الوضع في المنطقة يحتاج إلى قدر من التعقل لا الاندفاع. شعبوية الخطاب وفانتازيا الوعود تضمنان التأييد الزاعق والشعبية الجارفة اليوم، لكنهما لا تحققان القدرة على كسر الحلقة المفرغة غداً.