بعد أن أنهى أنس بن الصياد، نائب شرطة مؤسس الدولة الطولونية في مصر والشام أحمد بن طولون، انتقامه من أحمد بن المدبر، والي خراج الخليفة العباسي في مصر، الذي تسبب في موت أبيه وأخيه وطارد زوجته، فمات ابن المدبر في السجن بعد أن أصيب بالعمى، شعر أنس بالحيرة. ظن أن في الانتقام شفاءً وارتواءً، لكن ما ضاع لا يعود، ومن رحل لا يُبعث حيّاً في هذه الدنيا. لم يعد أنس إلى بيته ليذبح الذبائح ويحتفل ويفرح، عاد ليفكر ويفهم، ولكنه لم يفهم ولم يستطع التفكير.

الفرح المؤجل وهمٌ، وعودة الحياة كما كانت قبل ظهور الحزن مستحيلة باستحالة عودة الأموات والأجداد القدماء. تُرى هل عرف القدماء أن العمر قصير، وأن الأيام تُفقد الألوان لمعانها؟ ظنّ أن موت ابن المدبر سيعيد الأب والأخ اللذين ماتا، ويغمر أيام العمر راحةً بعد عناء. مات ابن المدبر.. نعم، كما مات الأب والأخ، وكما سيموت هو وغيره. أيّ عبث، وأيّ وهم؟

عاد إلى بيته، ودخل حجرته وهو يتساءل عن مغزى العمر ونهاية الأيام. لحظة النصر لا تستحق سنوات العناء، والموت لا يأتي للظالم ويترك المظلوم. منذ مات ابن المدبر والحزن لا يتركه. خاف أن يكون أفنى عمره باحثاً لاهثاً عن نهر، والنهر يجري تحت قدميه. بحث عن نجم ساطع في السماء، والنجم قد سقط حوله، يبحث عنه هو.

حين نفتح كتب التاريخ نبحث داخل صفحاتها عما يمكن أن نستفيد منه كي نطبقه على واقعنا، أو نحاول تفسير واقعنا من خلال أحداثه، فنحن لا نبحث عن أحداث بقدر ما نتتبع أحداثاً كأنها تقع أمام أعيننا. ربما تختلف الوجوه ويختلف الأشخاص لكن الأحداث تتشابه إلى الدرجة التي توقعنا في حيرة لا نستطيع معها أن نفرق بين الخيال والواقع. يحدث هذا للكثيرين منا، تماماً كما حدث لكثير من الكتّاب وهم يحاولون إسقاط ما جرى في الماضي على ما يجري في الحاضر.

فعلت ذلك الكاتبة ريم بسيوني في روايتها الطويلة «القطائع.. ثلاثية ابن طولون»، وفعل كتّاب آخرون مثلها. ربما كان الفرق هو أن خيال الكتّاب قد يجمح بهم أكثر منا فيلقون ما حدث من معارك كبرى في الماضي على ما يحدث من معارك في وقتنا الحالي، في حين أننا نلقي ما حدث على معاركنا الصغيرة التي لا تتجاوز الدائرة التي نعيش فيها ونتحرك داخلها.

ليس في هذا عيب ولا انتقاص من معاركنا الشخصية، لأن العوالم الصغيرة التي نعيش داخلها هي التي تشكل في النهاية العالم الكبير الذي نعيش فيه. «نحسب أنفسنا أجراماً صغيرة.. وفينا انطوى العالم الأكبر» كما يقول الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

العيب هو أن نظن أن هذه المعارك ضرورية كي تستمر الحياة وتمضي إلى النهاية التي نريدها لها، وأنه بدون هذه المعارك لا تستقيم الحياة.

«توقف عن أكل نفسك، ستمضي الأمور إلى حيث من المفترض أن تمضي» يقول الكاتب الياباني هاروكي موراكامي، وهي مقولة ليست جديدة من حيث الفكرة والمعنى، فهي تشبه إلى حد كبير بيت الإمام الشافعي الشهير «دع الأيام تفعل ما تشاء.. وطب نفساً إذا حكم القضاء». في هذا دلالة على أن ثقافات الشعوب وأفكارها متقاربة.

المشكلة تكمن في حجم القلق الذي يكتنف نفوسنا في كل مرحلة من مراحل الحياة، وهو قلق يصطبغ بلون المرحلة التي نعيشها، وقد يرافق البعض منا في كل مراحل حياته، مثلما حدث لأنس بن الصياد، الذي لم يتخلَّ عنه قلقه حتى بعد أن حقق انتقامه من ابن المدبر، الذي ظل يطارده طوال حياته، ويعتقد أنه سبب مشاكله كلها.

«مات وستموت أنت ويموت أحمد. اليوم تأتي إليّ منتصراً، وغداً يصيبك الأسى، واليوم يقف أحمد منتصراً، وغداً يأتي إليّ عاجزاً. لو عرفت أنها تدور بلا توقف لما يئست وتذمرت ولمت. لا انتصار على الأرض».

هذا ما قالته ساحرة الهرم لابن الصياد أنس.. فهل تراه ينطبق على كل البشر؟