غيب الموت الشهر المنصرم (25 يوليو) الدبلوماسي الأمريكي مارتن إنديك بعد حياة حافلة بالعمل الدبلوماسي في الشرق الأوسط، وخاصة الصراع العربي ـ الإسرائيلي. فهم هذه الشخصية يتيح لنا فهم فشل الولايات المتحدة في تحقيق سلام عادل في الشرق الأوسط.
إنديك المولود في لندن في العام 1951 لأسرة بولندية يهودية والتي هاجرت إلى أستراليا حيث ترعرع هناك. كان مفتوناً بإسرائيل وبقائها كدولة للشعب اليهودي والذي دفعه إلى الذهاب إلى إسرائيل بعيد انخراطه في الدراسات العليا في الجامعة الوطنية الأسترالية. عمل إنديك متطوعاً في أحد الكيبوتزات حيث شهد اندلاع حرب أكتوبر 1973 عن كثب، مما زاده اهتماماً بالدولة العبرية.
كما أن أهم ذكرياته من الحرب تلك هي الدبلوماسية المكوكية الذي كان يقوم بها وزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر لتحقيق وقف إطلاق نار على جميع الجبهات. حينها استوحى من كيسنجر هواية العمل الدبلوماسي لجهة تحقيق سلام دائم بين العرب وإسرائيل يضمن سلامة وأمن إسرائيل. حاول الحصول على عمل في الخارجية الأسترالية ولكنه أخفق بسبب خلاف نشب بينه وبين المسؤول أثناء المقابلة حول موضوع تورط الولايات المتحدة في فيتنام.
يقول إنديك في كتابه الأخير «سَيِّدُ اللُّعبَة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط» أن شدة شغفه بإسرائيل وأمنها جعله يدرس العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية. وحين أبلغ الأستاذ المشرف على موضوع أطروحته ورغبته للكتابة موضوع العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، رد عليه أستاذه لماذا تهتم بدولة آيلة إلى الزوال. ولعل هذا ما عزز قناعة إنديك بلعب دور في تحصين إسرائيل من أي تهديد خارجي.
وبعد إتمام الدكتوراه، عمل إنديك محللاً للشرق الأوسط مع الاستخبارات الأسترالية. حصل إنديك على تفرغ لمدة سنة وانضم إلى جامعة كولومبيا العريقة في نيويورك. ومنها انضم إلى اللوبي الإسرائيلي العتيد المعروف اختصاراً بـ «إيباك» كباحث.
وبما أن المنظمة المساندة لإسرائيل مهتمة بشؤون الشرق الأوسط، ارتأى إنديك إنشاء مؤسسة بحثية مستقلة تخدم أهداف «إيباك» مع الاحتفاظ بواجهة علمية تروج سياسات في صالح الولايات المتحدة. وقد خدم إنديك مديراً تنفيذياً للمعهد لمدة ثماني سنوات.
ونجح إنديك بتأسيس معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في العام 1985. ويغذي هذا المعهد كثير من الدراسات والسياسات للخارجية والدفاع من منظور يخدم إسرائيل ويعكس وجهة نظرها.أصبح إنديك مستشاراً لشؤون الشرق الأوسط في حملة المرشح الديمقراطي بيل كلينتون، وحين انتخب الأخير رئيساً للولايات المتحدة في العام 1992 عُيّن إنديك في مجلس الأمن القومي، بعد أسبوع من حصوله على الجنسية الأمريكية، مستشاراً للرئيس في البيت الأبيض للصراع العربي-الإسرائيلي. وكما جاء في كتابه أبرياء في الخارج: رواية شخصية لدبلوماسية السلام الأمريكية، والذي يتحدث فيه عن تجربته في المسيرة السلمية.
ومن أول الاستراتيجيات التي كتبها وتبنتها إدارة كلينتون هي سياسة الاحتواء المزدوج. وهي السياسة التي سعت إلى احتواء كل من العراق وإيران بصفتهما دولتين مارقتين. ولكن هذه الاستراتيجية أدت إلى زيادة التقارب بين بغداد وطهران.
شغف وهوس إنديك كان بهشاشة إسرائيل وسط محيط متلاطم ومعادٍ لدولة إسرائيل. وقضية بقاء إسرائيل أصبح شغله الشاغل.وكان يرى أن بقاء ورخاء إسرائيل يعتمدان على علاقتها بجيرانها، وأنه دون سلام دائم بين إسرائيل والعرب يصبح مستقبل الدولة العبرية في خطر.
المشكلة تكمن في المعادلة الصعبة التي طالما سعى إنديك أن يحققها في سبيل السلام، ويبدو أنها معادلة واشنطن أيضاً. يقول إنديك لا يجب فرض أي حلول على إسرائيل. عليك أن تحتضن إسرائيل وتقنعها أن السلام في مصلحتها. هذه القناعة ونتائجها واضحة ولا تحتاج إلى تعليق.
ذهب إنديك وذهبت معه آمال الوصول إلى السلام لأن لا أحد يريد أن يجبر إسرائيل على التخلي عن الأراضي المحتلة. دونما ذلك لن ترى الاستقرار. ما نراه من خراب ودمار ما هو إلا نتيجة للمقاربة التي تبناها السفير إنديك.
وكما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيّاً
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رماد