إنّ تاريخ السياسة هو في جوهره وبلا شكّ تاريخ الصراع على الحُكْمِ، ويحدث أن يُغَلَّفَ هذا الصراع بالأيديولوجيا أو بالدين أو بالديمقراطية أو بالمصلحة الوطنية العليا وخدمة الصالح العام أو بضرورة المحافظة على الاستقرار الأمني والمجتمعي، ولكنّه يبقى في كنهه وجوهره صراعاً محموماً على الحُكْمِ والسلطة.

وما تشهده بعض الدول والمجتمعات يدلّل بوضوح تامّ أنّ الحُكْمَ إذا تملّك بصاحبه يصبح نوعاً من الأفيون الذي يقضي تدريجياً على الحس السليم لديه ويصيبه بعاهة مستدامة تمنعه من رؤية ما يعتمل حقيقة في الواقع فينقطع بمرور الوقت عن هذا الواقع، وقد يصل الأمر به إلى حد إنكاره ورفضه بالكامل.

والواقع كما يعلم الجميع هو نتاج معقّد لعلاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية وحضارية وثقافية قد تلتقي أطرافها وقد تختلف وتنجح في تأطير خلافاتها عن طريق القانون أو الأعراف الجارية وقواعد حل النزاع داخلياً أو بين الدول، وقد تفشل في إيجاد الحلول السلمية والمتفق عليها فتلجأ إلى بدائل عنيفة كالثورات والحروب الأهلية والتعسف في استعمال السلطة ووسائلها.

ويجوز القول بعد معاينة تجارب عديد الدول من مختلف المشارب والأنظمة السياسية بأنه من الصعب على من وضعته الظروف في موقع الحُكْمِ أن يقبل التخلي عنه بسهولة، وهذا السلوك لا علاقة له بدول دون أخرى، إذ يحدث أن نجده سلوكاً دارجاً في ديمقراطيات عريقة مثل فرنسا، كما هو من المشاهد المتداولة في دول أقل عراقة في المجال الديمقراطي.

ولعل الفارق الأساسي بين الغرب الليبرالي وبعض الدول الأخرى، هو أن ماسك الحُكْمِ في الدول الغربية عندما يعمد إلى إنكار الواقع يسعى إلى تطويع القوانين والمؤسسات لخدمة أهدافه، في حين أنّ تحقيق الأهداف في دول تغيب عنها التقاليد الديمقراطية قد يكون فيه تعسف على القانون وتهميش للمؤسسات إن وجدت. وفي كل الحالات، يتم ذلك في ضوء غياب تام لهيئات تحكيمية تعدل أوتار ممارسات كل الأطراف سواء كانت في السلطة أو في المعارضة.

وما تعيشه فرنسا بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة التي غامر بتنظيمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يومي 30 يونيو و7 يوليو الماضي، والتي خرجت منها الأغلبية الرئاسية الحاكمة أكبر الخاسرين، يجسّد بوضوح ما خبرناه من تجارب الدول والشعوب في علاقة بالحُكْمِ والسلطة.

ومعلوم أنّ نتائج هذه الانتخابات أفرزت مشهداً برلمانياً مشتّتاً ويسيطر عليه اليسار واليمين المتطرف وتدحرجت فيه القوى الوسطية إلى مراتب دنيا، وهي وضعية تفرض على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التعايش واقتسام السلطة مع المعارضة، الشيء الذي يبدو أنّه غير قابل به إلى حد الآن.

ويجري الرئيس الفرنسي يوم 23 أغسطس الجاري مشاورات مع رؤساء الأحزاب من أجل تشكيل حكومة ائتلافية قادرة على حيازة أغلبية الأصوات في البرلمان الجديد، لكن المعارضة اليسارية بالخصوص تعتبر أن ماكرون تجاوز صلاحياته الدستورية التي تحدد له فقط تعيين رئيس الحكومة الذي تعود إليه صلاحية تشكيل الحكومة، وقد جرى العرف الجاري به العمل في الجمهورية الخامسة الفرنسية أن يكون التعيين من بين وبالتنسيق مع الطرف الحائز على أعلى نسبة مقاعد البرلمان، ويمارس تحالف الجبهة الشعبية الجديدة ضغوطات كبيرة على الرئيس لتعيين مرشحتهم لرئاسة الحكومة لوسي كاستيه، مستنداً في ذلك إلى غالبيته النسبية التي حصلت عليها (193 نائباً)، وقد وصل أمر هذه الضغوط إلى حد بدء أحد أطراف هذا التحالف (فرنسا الأبية) إجراءات عزل الرئيس ايمانويل ماكرون وفق الدستور الفرنسي، ورغم أن حظوظ نجاح هذه الإجراءات تكاد تكون منعدمة، إلا أنّها تزيد في حدة الضغوط على الرئيس ايمانويل ماكرون من أجل حمله على القبول بالأمر الواقع واقتسام الحُكْمِ مع اليسار الفائز في الانتخابات.

إنّ ديمومة الحُكْمِ والسلطة لا يستقيم حالها إلا في إطار من الاحترام التام للقانون والمؤسسات وبتوفّر شرط أساسي هو تحديد الشرعية وفق العرف الجاري به العمل في كل دولة سواء كان ذلك بالانتخاب الحر أو بغيرها، وفي غياب ذلك تكون السلطة مهزوزة وقابلة للزوال والاندثار وبما يهدد استقرار الدول والمجتمعات.