دخلت مقهى عالمياً شهيراً في الكويت ففوجئت بلوحة كبيرة تقول: من روح السعودية إلى قلب الكويت، في إشارة إلى جلب أفخر أنواع القهوة من جيزان (جنوب المملكة) ومهد صناعة القهوة إلى سوق شقيق. تذوقت القهوة فلاحظت أن جودتها لا تقل لذة عما تقدمه شتى أنواع المقاهي العالمية.
وبينما كنت أتأمل تلك اللوحة وأرتشف البلاك كوفي تسلل إليّ عبق القهوة الذي ذكرني بما قرأته في رؤية السعودية التي يبدو أنها بدأت تترجم على أرض الواقع.. فالمملكة تريد أن تتصدر قوائم البلدان أكثر تصنيعاً لأفخر أنواع القهوة عالمياً. كنت دائماً أتساءل كيف يسمى البن العربي أرابيكا وهناك روايات عديدة تشير إلى أن لحظة اكتشافه كانت في جزيرة العرب ولا نتربع على القوائم العالمية لبيعه. نحن أولى بالمنافسة من غيرنا.
بدأت المملكة في خطوات جادة لصناعة قطاع عملاق، عبر تأسيس صندوق الاستثمارات العامة للشركة السعودية للقهوة. ووفق تقارير وزارة البيئة والمياه والزراعة تبين أن البن السعودي قد صنف كالأفضل عالمياً من حيث الجودة. وتعد البلاد واحدة من أكثر 10 دول استهلاكاً للبن في العالم، حيث يتجاوز حجم استهلاكها السنوي 80 ألف طن. وتستورد ما بين 70 و90 ألف طن من البن كل عام. وينفق مواطنوها أكثر من مليار ريال سنوياً على القهوة.
ومن خطواتها الجادة انطلاق مؤتمر جازان الدولي الأول لأبحاث البن، والذي ذُكِر فيه أن التوقعات تشير إلى نمو سنوي متوقع بنسبة 5 % في هذا القطاع الواعد الذي سوف يجعل المنطقة بحق مهد صناعة القهوة.
وحتى تصل إلى أهدافك لا بد أن يكون لديك مؤشرات أداء يمكن قياسها، وهي مذكورة في مستهدفات الرؤية. وما تناقلته وسائل الإعلام يثلج الصدر من أن لدى المملكة إحصائية تشير إلى أن في جيزان وحدها 400 ألف شجرة، بحيث يمكن قياس نموها سنوياً ويضم الإقليم ما يناهز الألف مزرعة لزراعة البن. وتعتزم الجهات المعنية زراعة 1.2 مليون شجرة إضافية بحلول العام 2026.
هذا تحد كبير، غير أنه قابل للتطبيق والقياس. وكما نقول في الإدارة ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته. فقد أقدمت بلدان شتى على إحياء أو إنشاء قطاعات من عدم، مثل قطاع التكنولوجيا المالية FinTech في سنغافورة الذي جعلها مركزاً عالمياً لتلك الصناعة. وقدمت لنا الولايات المتحدة وادي السيليكون كمركز عالمي للتكنولوجيا والابتكار. وهبت علينا نسائم رياح الطاقة المتجددة من الدنمارك.
وأطلقت دولة الإمارات ممثلة في دبي أكبر وجهة سياحية فاخرة، حيث يرتاد الإمارات سنوياً أكثر مما يرتاد تايلاند، والسعودية، واليابان، وهولندا (وعددهم نحو 28 مليون زائر) بحسب إحصائية لعام 2023.
ويصف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ذلك بقوله: «على هامش أحد اجتماعات مجلس التعاون في الثمانينات، وبينما كان الوزراء يتناقشون في الأزمات التي تمر بها المنطقة والتحديات التي لا تنتهي.. كنت في منتصف الثلاثينات وكنت أصغر من في الجلسة.. وأكثرهم مللاً من حديث السياسة الذي لا ينتهي.. طلبت الحديث، واقترحت على الوزراء اقتراحاً مختلفاً: لماذا لا نطور مدن الخليج لتكون وجهات سياحية عالمية.. ويمكن أن نبدأ من دبي.. اتجهت نحوي الأنظار.. وساد الصمت قليلاً.. قبل أن تقطعه ضحكة أحد وزراء الخارجية الأكبر سناً، ثم قال: ماذا سيجد السياح في دبي ومدننا الخليجية؟ الصحراء! الرمال! الحرارة والرطوبة! ضحك الباقون.
ثم أضفى على حديثه نبرة الخبرة، وقال: ثم يا شيخ محمد.. أين الإرث الثقافي والحضاري والتاريخ الإنساني في دبي حتى يزورها الناس، لم أجادله.. وإنما أحسست بالحزن لأننا لا نستغل ثرواتنا بشكل أفضل ولا نثق بشبابنا.. ولا نجرب شيئاً مختلفاً غير الذي نعرفه ونألفه»!.
قصتا إحياء قطاعي البن والسياحة تجربتان واقعيتان عن إمكانية عمل حراك كبير في الأقاليم العربية، بفضل التخطيط، والاستراتيجيات الذكية، وخطط عمل قابلة للتطبيق.