تعرّف العربية بلادة العقل بأنها ثقل الفهم، وركود الذهن، وضعف الذكاء.. ولكن لماذا كان هناك عقل بليد؟
العقل في تعريفه هو وحدة الخبرة والدماغ، فهذا العضو الذي اسمه الدماغ ذو قابلية لاستقبال الخبرة البشرية الحسية والإدراكية واللغة والأفكار والمعتقدات والمعارف وتحويل كل هذا إلى عقل يفكر.
ولهذا، فالتفاوت بين الناس من حيث التفكير، أو الذكاء، تفاوت في بنية العقل وتكوينه وتكونه التاريخي.. ولهذا أيضاً فإن الفلاسفة والإنتروبولوجيون عندما يتحدثون عن عقل عربي وعقل أوروبي وعقل مدني وعقل قروي وعقل بدائي إلخ، فإنهم يتحدثون عن التكوين التاريخي للعقل. وقس على ذلك الفروق الفردية بين من ينتمون إلى مجتمع واحد، فالعقل الفردي الذي يمتلك عبر التعلم في مراحله المختلفة المعرفة وعدد أكبر من المفاهيم المعرفية النظرية والعلمية، فهو قادر على التفكير على نحو أفضل من فاقد هذه المفاهيم.. فالاختلاف بين هذا الفرد أو ذاك راجع إلى هذا. دون أن ننكر الموهبة التي تعود إلى الفطرة، والتي إذا ما وجدت شرط إظهارها وتطورها فإنها تخلق المبدع.
ولكن القول بالتفاوت العرقي - العنصري قول فيه حماقة، فقابلية الدماغ لاكتساب المعرفة وتكوين العقل واحدة عند جميع البشر، وما الاختلاف في العادات والقيم والذهنيات إلا ثمرة التاريخ.
إذا كان العقل هو ذا وهو كذلك فإن العقل البليد هو وليد البنية التي أنتجته من جهة، أو وليد الفطرة الدماغية، أو وليد الأمرين معاً.
ولعمري فإن خطر العقل الفردي البليد خطر لا يذكر أمام خطر الجماعات البليدة.
لأن خطر العقل الفردي البليد خطر محصور في نطاق ضيق جداً، فيما خطر الجماعات ذات العقل البليد خطر قد يطال المجتمع كله إذا ما توافرت للجماعات ذات العقل البليد السلطة الخطابية والاجتماعية والسياسية.
والعقل البليد ينتج خطاباً بليداً، وإجابات بليدة عن أسئلة صحيحة أو يطرح أسئلة خاطئة لفهم واقعة موضوعية.
وأسطع مظهر من مظاهر بلادة العقل في حقل التفكير توسل الإجابة عن أسئلة الواقع المعيش بترديد أقوال سبق أن صدرت عن عقل قديم أوروبياً كان أم محلياً عن واقع عاشوه.. ولهذا ترى كثيراً من الباحثين عن أجوبة الواقع يعودون إلى ما مضى من قول، وهؤلاء رهط من العنعنيين.. فالحداثي الذي يجيبك عنعنة لا يختلف عن الأصولي الذي لا يستطيع أن يفكر خارج العنعنة. ويبدو لي أن العنعنة ذهنية البلداء الذين ولدوا في ثقافة بليدة وكبروا فيها. الأقلام العنعنية هي الأقلام المثقلة بالصدأ. إن العقول التي تفكر والأقلام التي تكتب وهي مثقلة بصدأ الماضي، وتملأ الورق بهذا الصدأ وبما قيل حول التصورات الأسطورية بلغة العنعنة التي ترتدي قناع الحقيقة المطلقة ليست سوى اعتداء أشر على ماهية العقل بوصفه سيرورة لا تتوقف من القطائع المعرفية التي لا تعرف بدورها التوقف، وتجربة من الأخطاء التي تمدنا بطاقة لا تنفد في بحثنا عن الحقيقة، الحقيقة بوصفها تاريخاً مستمراً من ثمار التفكير والمعرفة. وفي هذا الإطار يبرز دور الفلسفة بوصفها عقلاً طليقاً تتوسل الحقيقة فقط، ولهذا فإن الفلسفة شجاعة التفكير العقلي على غير غرار وليس الدراية بمن فكروا فلسفياً وترديد ما قالوه، بل هي اجتراح المفاهيم الدالة على الواقع والوقائع. ولعمري بأن أبغض الحلال عند الفلسفة هو التقليد. إنها الدفاع عن العقل الوقاد المبدع لكل ما هو جديد في الحياة ومن أجل الإنسان.
كما تبرز أهمية العلوم الإنسانية التي تحفر في ما وراء الظواهر لفهمها، وتحدد الاحتمالات والمسكنات التي تساعد على تكوين صورة للمستقبل.
فضلاً عن ذلك فإن دور العلم والبحث العلمي أحد أهم سبل التحرر من العقل البليد، فالعلم ليس مجرد معرفة تحولت إلى تقنية، بل العلم يخلق بدوره الوعي العلمي الذي يحرر العقل من اللا موضوعية.