تشهد دول العالم، لا سيما الدول النامية كثيفة السكان، تحديات تعليمية تتمثل في ازدياد أعداد خريجي الجامعات والأكاديميات العالية، مقابل انخفاضات مضطردة في أعداد خريجي المدارس والكليات المهنية.
وفي عالم يسوده عدم اليقين واضطراب أسواق العمل وعدم تطابق مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، تشكل هذه الظاهرة المتمثلة في وجود فائض في المعروض من خريجي الجامعات ونقص في المعروض من العمالة الماهرة، خطراً على الاقتصاد الوطني واستقرار الدولة ونموها، ناهيك عن خطر تدني مستويات التعليم الأكاديمي بسبب كثافة أعداد الملتحقين بالجامعات وازدحام الكليات بهم.
وعليه يجب على خريجي المدارس الثانوية أن يعوا ويستوعبوا حقيقة أن التعليم الجامعي لم يعد يضمن الرفاهية والحصول على وظائف مجزية وتحقيق الأحلام الوردية، وأن التعليم الصناعي والمهني هو البديل لمستقبل مشرق. وأمامنا مثال، الصين، التي تفيد بياناتها التعليمية الرسمية للأعوام من 2015 إلى 2017 مثلاً بأن أعداد خريجي الجامعات فاقت أعداد خريجي المدارس الإعدادية والثانوية.
وهذا لئن دل على وجود زيادات مضطردة لجهة أعداد الملتحقين بالتعليم العالي والمتخرجين من الجامعات، فإنه يشير في الوقت نفسه إلى تدهور نظام التعليم العالي وجودته وتضرر خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويزداد الأمر سوءاً عندما يعتقد خريجو الجامعات أن «التعليم العالي هو تعليم النخبة» فيمتنعون عن القيام بوظائف «الياقات الزرقاء» التي توفر أكثر الفرص حيوية في الصين، أو يرفضون فكرة تأهيلهم مهنياً، حتى وإنْ ضمنوا وظائف تزيد عوائدها على عوائد الوظائف الإدارية والمكتبية المريحة.
وللعلم فإن الصين شرعت منذ عام 1996 في إصدار قوانين خاصة بالتعليم المهني، حددت فيها مكانة هذا المجال ودوره في التنمية والجهات المسؤولة عنه وطرق تمويله.
وهكذا ظهرت في البلاد مدارس ومعاهد التعليم المهني على المستوى العالي (بعد الثانوية) والمستوى المتوسط (بعد الابتدائية) إلى جانب المدارس الفنية. ويعتبر التعليم المهني العالي أعلى درجات التعليم المهني الصيني ويضم اليوم 87 معهداً لتعليم فنون مهنية قصيرة المدة وأخرى تخصصية ذات مُدد أطول. أما المدارس الفنية التي يمكن الالتحاق بها بعد أي مستوى دراسي فمن مسؤولياتها إعداد الأكفاء من العاملين في الجبهة الأمامية للاقتصاد الوطني في المجالين التطبيقي والتكنولوجي.
وفي عام 2022 أصدرت الحكومة الصينية نسخة جديدة من دليل تخصصات التعليم المهني، ضمت 19 فئة رئيسة و1349 تخصصاً متنوعاً. غير أن التحولات التنموية والاقتصادية التي شهدتها الصين خلال العقود الماضية والتي أدت في مجملها إلى تغير في المفاهيم والقيم والتطلعات على المستوى الفردي، نجم عنها ميل رافض من قبل خريجي المراحل الثانوية للالتحاق بالتعليم المهني، وميل رافض آخر من قبل خريجي الجامعات للالتحاق بالوظائف المهنية.
وتظهر بيانات عام 2022 أنه من بين جميع الصينيين ممن هم في سن العمل، أكمل حوالي 30 بالمائة منهم تعليمهم الثانوي، و14 بالمائة تعليمهم الثانوي الأكاديمي، و9 بالمائة فقط أكملوا تعليمهم الثانوي المهني، والسبب هو الفكرة السائدة بأن عوائد التعليم الأكاديمي العالي هناك تزيد بأكثر من 20 بالمائة مقارنة بعوائد التعليم المهني، مما يفقد التعليم المهني الجاذبية عند الشباب لصالح نيل الدرجات العلمية الجامعية.
ومن هنا قيل إن الصين ومشاريعها التنموية تواجه وضعاً خطيراً بسبب النقص في العمالة الماهرة المطلوبة من جهة، ورفض خريجي الجامعات من الصينيين الالتحاق بالوظائف المهنية من جهة أخرى.
ولهذا عمدت بكين في عام 2022 إلى تخصيص نحو 3.68 مليارات دولار لدعم التعليم المهني بزيادة نحو 8.5% عن العام 2021. وبطبيعة الحال فإن عوائق كثيرة تحول دول هجرة الصينيين من حملة الشهادات الجامعية إلى الخارج للبحث عن الوظائف التي حلموا بها ولم يعثروا عليها في وطنهم، وعلى رأس هذه العوائق عامل إجادة اللغة الإنجليزية كتابة وتحدثاً وقراءة ونطقاً سليماً، وعامل اختلاف الثقافة وقابلية التكيف السريع مع الثقافات الأخرى. ولهذا فإن السبيل الوحيد أمامهم هو القبول بالانخراط في برامج التأهيل المهني لمدد تتراوح ما بين عام وعامين.
يمكن للصين أن تتجاوز مأزق عدم تطابق مخرجات التعليم فيها مع متطلبات السوق عبر اعتماد سياسات تعليمية وتدريبية مشابهة للمطبق في جارتها الهندية، ومنها على سبيل المثال معالجة فجوة الأجور بين الجنسين من جهة، وبين المتزوجات والعازبات من جهة أخرى، وبين الخريجين المهنيين والخريجين الجامعيين من جهة ثالثة. ومنها أيضاً العمل على تغيير التصور التقليدي الشائع للتعليم المهني كخيار أدنى، بمعنى الإعلان عن التعليم المهني بشكل أكثر إيجابية وتقديم حوافز للملتحقين به مع تحسين شامل لجهة جودة المناهج وجودة بيئات التدريب ذات الصلة.