قرر المجلس الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد العمال) في اجتماعه الأخير الإضراب العام في كامل تراب الجمهورية التونسية، وتمت المصادقة على القرار ضمن اللائحة العامة للمجلس على أن يتم تحديد موعده لاحقاً من طرف المكتب التنفيذي الوطني، وسيشمل الإضراب العام القطاع الخاص والقطاع العام والوظيفة العمومية، ويعتبر المجلس الوطني أعلى هيئة بين مؤتمرين، وهو ما يضفي على أشغاله أهمية خاصة، وقد انعقد المجلس في ظرفية اجتماعية يطغى عليها توتر العلاقة بين المنظمة النقابية والحكومة، وفي مناخ سياسي معقد وصعب قبل الاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقرر يوم 6 أكتوبر 2024، وهو إلى ذلك اجتماع يعقد في ضوء خلافات وتجاذبات داخلية في المنظمة، وهو ما يكسب قراراته طابعاً استثنائياً واستراتيجياً.
ومنذ نهاية المؤتمر الأخير شهد الاتحاد العام التونسي للشغل أزمات كبيرة، يرجع الجزء الأكبر منها بحسب عديد القيادات النقابية والسياسية إلى محاولات اختراق قامت بها الحكومات المتعاقبة من أجل تحجيم دور الاتحاد وحصره في الجوانب المطلبية بعيداً عن كل دور سياسي ووطني، والجزء الآخر هو من الصراعات الداخلية الناجمة عن اختلاف في الرؤى والتصورات، وهو عامل ثراء وأمر طبيعي نظراً لتنوع المشارب الفكرية والسياسية داخل الاتحاد.
وتكمن المفارقة في أن ما تطلبه جل الحكومات وبعض الأحزاب من هذه المنظمة النقابية من ضرورة النأي عن السياسة، كثيراً ما تناقضه طلبات أخرى من جميع الأطراف حتى يقوم الاتحاد بدوره الوطني والسياسي في كل الأزمات السياسية التي مرت بها تونس، وقد أمكن لاتحاد العمال التونسي على مدى الأزمات والسنوات القيام بما هو منوط بعهدته، وغالباً ما نجح في نزع فتيل التوتر من خلال قدرته على محاورة كل الأطراف دون استثناء.
وإذ تقبل الحكومات المتعاقبة في تونس أن يلعب الاتحاد العام التونسي للشغل هذا الدور في وقت الأزمات، فإنها تكاد تنكر عليه ذلك متى استقر الحكم بيدها، بل إن نكران ذلك عادة ما يكون مقدمة لخلق ظروف موضوعية تعطل نسق المفاوضات من أجل تحقيق الجوانب المطلبية للاتحاد. وقد يكون من المفيد فهم سر هذه القوة والمكانة الاستثنائية لاتحاد العمال التونسي، فهو أعرق النقابات الأفريقية والعربية، وهو عضو مؤثر في الحركة النقابية العالمية، وهو إلى ذلك الإطار الذي اتسع لكل التيارات الفكرية والثقافية والسياسية دون أن ينحرف به المسار إلى التحزب السياسي، ما أكسبه استقلالية عن هذه التيارات والأحزاب.
وقضية استقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل تعتبر مسألة استراتيجية في الممارسة النقابية، وهي الأساس الذي بنيت عليه قوة هذه المنظمة منذ تأسيسها، وتفهم الاستقلالية في علاقة بالأحزاب وكذلك وبالخصوص في علاقة بالسلطة السياسية القائمة، وقد وقفت القيادة الحالية للاتحاد على الأهمية القصوى للاستقلالية المالية والسياسية، ووفرت فيما نعتقد شروط ذلك.
وإذا كان أساس النزاع بين الحكومات السابقة والاتحاد العام التونسي للشغل أسس على رفض دوره السياسي باعتبار أن هذه الأطراف وغيرها ترى في المنظمة العمالية منافساً سياسياً لها، فإن الأمر الآن يختلف، لأن رفض دور الاتحاد جاء في إطار رؤية «فكرية» و«سياسية» ترفض مختلف الوسائط الحزبية والمجتمعية.
ويعتقد المراقبون أن الاستقلالية المالية للمنظمة النقابية والتنوع الداخلي داخلها والتاريخ الوطني الذي انفردت به على مدى سنوات الاستقلال وقبله، هي من العوامل التي دعمت استقلاليتها وأكسبت مواقفها قوة ومتانة أكبر، ولعل المكسب الكبير الذي ساهم في ترسيخ مكانة ودور الاتحاد العام التونسي للشغل هو عدم سقوطه في لعبة التطرف والمغالاة لصالح السلطة أو معارضيها، وهو ما أمن على مدى التاريخ استمراريته.
ويواجه الاتحاد الآن تحديات وضغوطات كبرى من أجل حمله على تغيير ثوابته في التعاطي مع المشهدين الحكومي والسياسي وهو ما يجعل من مسألة التوازن داخله ضرورة وجودية تقع بالأساس على عاتق القيادة النقابية.
وقد يجد المرء تبريراً للسلطة الحاكمة، أي سلطة، التي تسعى إلى احتواء المنظمة النقابية، سواء أكان ذلك بالاختراق أم بتخريبها من الداخل، ولكن ما يطلبه بعض الأطراف من المناضلين «الديمقراطيين» بضرورة إحداث تغيير جذري داخل المنظمة، يلتقي موضوعياً مع إرادة البعض في تدميرها.
وإن ما تطلبه السلطة السياسية وبعض القوى الحزبية باسم الديمقراطية هو فيما نرى نفي لهذه الديمقراطية، باعتبار أنها تستهدف أهم مكونات المنظمة النقابية، أي التيار الذي يدافع عن استقلاليتها واستقلالية مواقفها عن السلطة وكل الأحزاب، ويؤمن مناعتها الداخلية، وسواء نجحت السلطة أم تمكن «الديمقراطيون» من تحقيق أهدافهم، فإن النتيجة واحدة، إضعاف المنظمة تمهيداً للقضاء عليها، وإن ضرب الاتحاد العام التونسي للشغل هو وبال على الجميع، لأن مناعته وديمومته من مناعة وديمومة تونس.