قراءة كتاب أمين معلوف الأخير، والذي نشر بالعربية هذا العام، بعنوان «متاهات الضائعين»، تفتح الأذهان، والرجل لا يحتاج إلى شهادة للإشادة بإبداعاته، فقد قدم للمكتبة العربية الكثير من الأفكار النيرة.
في الكتاب معلومات معمقة، مخالفة لما يذهب إليه بعض المهتمين العرب ويرددونه، أن المجتمعات الشرقية مثل اليابان والصين، وعدد من مجتمعات الشرق، دخلت الحداثة من دون أن تغير في ثقافتها. تسمع مثل هذا الرأي في الكثير من الحوارات!
معلوف يبحر في تاريخ هذه المجتمعات، حيث عنّون كتابه المذكور بعنوان فرعي، هو «الغرب وخصومه»، فيرى أن الدخول في الحداثة لأمم كبيرة، مثل الصين واليابان وكوريا ودول مثلها، لم يكن بالإمكان معه التمسك بالتراث والقيم الثقافية التقليدية، والدخول في الحداثة.
لقد فرض الاحتكاك، ومن ثم التعامل مع الغرب، استعارة أدواته، وقد فرض على تلك المجتمعات التغيير في ثقافتها العامة، فلم يكن بالمستطاع الدخول في الحداثة المعاصرة، وفي نفس الوقت التشبث بالتقاليد المتعارف عليها في المجتمعات القديمة، تلك خرافة يجب الإقلاع عن ترديدها.
التفاصيل في الكتاب كثيرة، على سبيل المثال، لم تستطع اليابان عام 1905 هزيمة الأسطول الإمبراطوري الروسي، الذي انطلق لإنزال القصاص باليابانيين، إلا بعد عقود من التحديث الغربي، الذي مرت بها اليابان قبل ذلك التاريخ. لقد غيرت تلك المعركة تفوق الرجل الأبيض، الذي ساد لقرون ثلاثة سابقة، بأنه لا يقهر، إلى درجة أن رجلاً مثل جواهر لال نهرو قال معلقاً في منتصف القرن العشرين، إن معركة اليابان ضد روسيا القيصرية أعطتنا درساً في الهند أن الرجل الآسيوي يمكن أن يتفوق على الأوروبي الأبيض، إن حصل على وسائل التفوق، وهي التعليم الحديث.
يرى معلوف أن النهضة الحديثة في الغرب بدأت في القرن الخامس عشر الميلادي، مع تباشير التخلص من الفكر الكنسي التقليدي، هذا لا يعني أن دول الشرق لم يكن لها تاريخ، ولكنه كان مرتبطاً بوعي القائد «الإمبراطور أو الملك»، وخياراته في تسليم المهام لرجال الكفاءة، وليس رجال الثقة، وتواصل السياسات مع تغيير العهود. يستشهد بالإمبراطورية الصينية، فقد نفذت الصين في بداية القرن الخامس عشر جملة من الاستكشافات البحرية، اضطلع بها أسطول صيني عملاق، مهمته استكشاف ما لم يعرف من القرن الأفريقي، مروراً بالهند والجزيرة العربية، بقيادة شخصية خارجة عن المألوف، الأميرال تشنج خه، وهو ينتمي إلى أسرة صينية مسلمة. توقفت تلك الاستكشافات بوصول إمبراطور جديد، وجد أن تمويل تلك الحملات مضيعة للمال! في نفس الوقت تقريباً قرر أمير أوروبي من البرتغال، اسمه هنري، ولقبه «الملاح»، رغم أنه لم يدخل البحر إلا قليلاً، قرر تمويل رحلات بحرية استكشافية، ومعها بدأ ينمو في أوروبا تدريجياً التنافس على مستعمرات ما خلف البحار!
لقد استفاد الغرب من الشرق، والمفاجأة أن معلوف يذكر لنا أن آلة الطباعة التي طورها الغربيون كانت اختراعاً صينياً، وهي، أي تلك الآلة، توقفت على حدود الدول الإسلامية لمدة ثلاثمئة عام، بسبب فتوى بحرمتها! تخلف الشرق، حيث تجمد في ثقافة صلبة، اكتشف في النهاية أنه يجب أن يغيرها، كي يساير الحداثة.
الحضارة الأوروبية الحديثة على درجة كبيرة من الابتكار والإقدام، وهدفت إلى إنجاز ما لم تسبقها حضارة أخرى إلى إنجازه، وهي المأسسة وتطور العلوم، إلا أن الوصول إلى تلك المرحلة استلزم الكثير من الصراع والثورات الداخلية، وشهوة التمدد الخارجي.
في اليابان، حتى وسط القرن التاسع عشر، كان ممنوعاً أن يخرج مواطن إلى الخارج، ومن يفعل ويَعُدْ يُعدم، حتى وصل الأسطول الأمريكي، في عام 1853، مهدداً اليابان إن لم يتعاملوا تجارياً مع الولايات المتحدة، عليهم أن يستعدوا للحرب! قادت الأحداث بعدها إلى حرب أهلية، أطاحت النظام السابق، وجاء عصر الميجي بنظام جديد عام 1868، والميجي تعني «الحكومة المستنيرة»، هذه الإصلاحات كانت تحت شعار «الإقلاع عن العادات الضارة، والبحث عن المعرفة في العالم أجمع»، وهكذا بدأت النهضة الصناعية، التي وفرت بعد ثلاثة عقود الانتصار على قوة أوروبية هي الإمبراطورية الروسية!
ما يمكن تلخيصه أن النهضة تتطلب تجاوز عدد من المعوقات الثقافية، وبخاصة تلك المرتبطة بالشعوذة والخرافة، وقيادة لها رؤية، ورجال تنفيذ ذوو كفاءة. إنه كتاب رائع، يستحق القراءة، حيث يستطيع التائهون التخلص من متاهاتهم، مع ضرورة مفارقة جبال الأفكار المتخلفة، والمعوقة للحداثة.