يشغلنا التراث دائماً من باب المسؤولية الوطنية، خاصة في ظل التحولات الجذرية، التي تشهدها المجتمعات حول العالم، والتي تجعلنا دائمي التساؤل في كيفية تعاملنا مع التراث والفلكلور والمحافظة عليه، ونقله للأجيال القادمة. وبما أن التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي قد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وتؤثر في جميع مناحي الحياة، لذلك أجد أنه لا بد من إعادة النظر في فلسفة التراث وعلم الاجتماع، لتطوير فهم أعمق لكيفية تفاعل التراث مع هذه الأدوات الحديثة.
كان التراث، سواء كان مادياً أو معنوياً على مر العصور، إحدى وسائل تشكيل الهوية الوطنية، والحفاظ على الذاكرة الجماعية للأمم، كما ذكرنا في مقالات سابقة، إلا أن هذه الوظيفة للتراث باتت تتعرض لتحديات جديدة في ظل التقدم التكنولوجي، وأصبح من الضروري طرح نظريات علمية اجتماعية جديدة، تواكب هذه التحولات، وتتيح لنا فهم المتغيرات، التي تربط بين التراث والثقافة الرقمية.
في الماضي كان التراث يُنقل عبر الروايات الشفهية والممارسات التقليدية من جيل إلى جيل، لكن مع التطور التكنولوجي أصبحنا نشهد تحولاً جذرياً في كيفية تعاملنا مع التراث. التكنولوجيا لم تضف عنصراً جديداً فحسب، بل أصبح بالإمكان تفاعل التراث مع البيئة الرقمية، وتكيفه مع التطورات التكنولوجية ليبقى حياً ومتجدداً، ونلاحظ أيضاً أنه قد أتاح للشباب فرصة التعريف بهويتهم الإماراتية الأصيلة، بما يضمن استمرارية التراث، وإيصاله بطريقة تلائم المتغيرات.
نعمل حالياً على بحث نظرية جديدة تقترح أن تطور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي يزيد من قدرة الأفراد العاديين والإعلاميين على الوصول إلى الجمهور المستهدف، ما يؤدي بدوره إلى تعزيز الاهتمام بالتراث المادي والمعنوي. وهذه النظرية قد تربط بين فلسفتي التراث وعلم الاجتماع، وقد تبين أن التكنولوجيا الحديثة ليست فقط أداة لنقل التراث، بل يمكنها أن تكون محفزاً لإعادة اكتشاف التراث وتقييمه، والتفاعل معه بطرق مبتكرة.
دعونا نقتبس من الفيلسوف مارتن هايدغر، من مقاله الشهير "The Question Concerning Technology"، ما يسمى بمفهوم الإطار (Enframing)، الذي يشير إلى أن التكنولوجيا ليست مجرد أداة، بل هي وسيلة لإعادة كشف العالم بطرق معينة، لذلك يمكننا القول إن التكنولوجيا قد تكون وسيلة لإعادة اكتشاف التراث الإماراتي بطرق مبتكرة، بمعنى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد تتمكن من إبراز التراث الإماراتي في إطار جديد، ويكون العمل مركزاً، بحيث إن الإطار الجديد يظهر جوانب لم تكن واضحة في الماضي، ويتيح للأجيال الجديدة تفاعلاً أعمق مع موروثاتهم. هذه القدرة على الكشف تسهم في إعادة إحياء التراث الإماراتي، وجعله جزءاً لا يتجزأ من الحياة المعاصرة.
رغم الفرص الكبيرة التي توفرها التكنولوجيا لا يمكننا تجاهل التحديات التي تواجه عملية الحفاظ على التراث الإماراتي ونقله، وعلينا مراقبة ذلك، فمثلاً نخشى أن التحديث السريع والاعتماد المتزايد على الوسائل الرقمية قد يؤدي إلى فقدان الأصالة والعمق التاريخي لبعض أوجه التراث، أهزوجة، أزياء، رقصة، أكلة شعبية.. إلخ، لكن كيف ومن يمكنه مراقبة أن يحافظ التراث على طابعه الأصيل والروح التي تسري فيه، وعدم تركه يذوب في طوفان التطور والعولمة دون ضوابط أو استراتيجيات تحافظ على هويته الخاصة؟!
لا أريد أن أطيل، ولكننا نعترف أن التكنولوجيا قد أتاحت فرصاً غير مسبوقة للأفراد للتفاعل مع تراثهم الثقافي بطرق كانت تعتبر مستحيلة في الماضي، حيث يمكن للأفراد الآن تصوير المواقع الأثرية، وتوثيق الأكلات الشعبية، وعرض الأزياء الوطنية برزانة ووقار واحترام وبدون إسفاف، بل وحتى إعادة تلحين الأغاني التراثية، ضمن قالبها الفلكلوري الأصلي، وإيصالها لجمهور واسع حول العالم، وعلينا أن نتذكر دائماً أن نشر التراث الوطني عالمياً ليست مهمة المؤسسات الرسمية وحدها، بل بات واجباً ملزماً لكل من لديه القدرة على الوصول إلى الجماهير.
ما زلت أعمل على كل أوجه نظرية فلسفية اجتماعية تؤسس لربط التراث مع التطور التكنولوجي، لكن من المهم بالنسبة لنا أن نبدأ بالتحرك نحو أهمية الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في خلق الوعي العالمي بتراثنا وفلكلورنا وثقافتنا وهويتنا، وكيف يمكن لتراثنا أن يكتسب شهرة دولية استثنائية، من خلال ترجمة المقاطع التراثية إلى لغات مختلفة، ما يعزز من قيمته، ويزيد من الوعي بأهميته على مستوى أوسع، وهذه الأفكار، والتي آمل أن تجد أذاناً صاغية، قد تسهم في جعل تراثنا العزيز الجميل، عالمياً، بل الأول في قائمة الدول، التي تنافس على مكانة تراثها وفلكلورها.