مع الثورة التي تحيط بنا، وهي غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وأقصد ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، سواء كانت المفتوحة أو المغلقة، يزداد التضليل المعلوماتي، سواء كان مقصوداً أو غير مقصود، وكثير منا مشتركون في نطاق التواصل المغفل مع أكثر من مجموعة، يلاحظ أن المعلومة تدور بين تلك المجاميع ويضاف عليها، حتى تصبح من ناحية حقيقة ثابتة، ومن ناحية أخرى، لا يستطيع أحد تحديها أو تكذيبها.

وسائل التواصل الحديثة أسلمت الناس إلى الكسل اللذيذ والمريح، فأنت لا تحتاج أن تبحث في كتب أو تسأل خبراء، تستطيع الحصول على المعلومة بضغطة زر في جهازك المحمول، وفي معظم الأوقات، تلك المعلومة إما ناقصة أو مضللة من الأساس، بل هناك من يزعجك بسخافاته الشخصية التافهة، ومن هم من مروجي الشعوذة أو شتم الآخرين!

نتج عن ذلك ما يمكن أن يسمى (ثقافة المواءمة)، فأي معلومة تناسب قناعاتي وتؤكد اعتقادي، سواء السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، أقوم بتعميمها على الآخرين، لأنها متوائمة مع ما أرغب.

النتيجة أننا نحصل على مجاميع من الناس ممحية قدرتهم على التفكير النقدي، فهم يتلقون وينشرون من جديد ما يصل إليهم دون تمحيص، وليس ذلك محصوراً على العامة، وقد انتشر في الخاصة، أي الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين، ومن يفتي بالفقه، والذي من المفروض أنهم حصلوا على تدريب معقول في التفكير النقدي. من هنا يشيع في المجتمع ما يسمى (التسمم المعلوماتي)، وهو تسمم خطير يسري في جسم المجتمع، فيصدق كثيرون ما بثه غيرهم من خرافة وتحريف للحقائق.

الإشكالية التي يواجهها البعض، أن أي تفكير نقدي لما يقال ويقبل في التيار العام، يقابل بمقاومة، وقد يصاحب تلك المقاومة تكفير أو تخوين أو تحقير، لأن الخدر اللذيذ الذي وصلت إليه الجماعة، لا تريد أحداً أن يوقظها منه.

المثال الذي يمكن أن يضرب، هو ما نشاهد اليوم في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، فكلما حاولت مؤسسة أو شخص بسط الحقائق، بأن هناك إشكالية في نوع الصراع وأدواته ومناصريه، سرعان ما يوصف ذلك الشخص أو المؤسسة بأنها (عدوة الأمة)، وأوصاف أكثر شدة وحمقاً.

لقد أصبح التسمم المعلوماتي جزءاً لا يتجزأ من الوعي العام، والذي قاد إلى تصورات شبه نهائية، وهي في حقيقتها أوهام، ويزيد الذكاء الاصطناعي خطورة، ما يبث، لأنه يمكن أن يقنعك بما لا تستطيع أن ترده.

لقد أزاحت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم القراءة الجادة، والبحث العلمي الذي من أصوله البحث عن الفكرة وما يناقضها، للوصول إلى الحقيقة النسبية، فلا توجد حقيقة ثابتة، حتى في علوم الطب، التجربة البشرية واضحة في هذا المجال، فتشخيص طبيب لمرض، قد يناقضه تشخيص طبيب آخر، لأن ذلك معتمد على الخبرة والتجربة معاً.

يعتمد كثيرون اليوم في تشكيل قناعتهم على الفكرة الأقرب لتحقيق الرغبة الراسخة عندهم، وتسهم الكثير من المؤسسات في ترسيخ تلك القناعات المبنية أساس على الجهل، ولا يبقى ضرر ذلك التوجه على الأفراد، رغم خطورته، بل في الكثير من الأوقات يسري الضرر على الشعوب، عندما تتكون لدى قادتها قاعدة معلوماتية وهمية ومسممة، فيدخلوا في صراع وحروب يفنى فيها الأخضر واليابس.

يرى البعض أن هذا التسمم المعلوماتي، يجب أن يقاوم بتشريعات قمعية، وسياسيات منع، وهي نظرة قصيرة لما يحدث حولنا، الحل الأنجح، هو تدريب الناس، وخاصة الطلاب في المدارس، على منهج التفكير النقدي، واستخدام أدواته التي أصبحت معروفة في قياس كل ما يصل إلى أعيننا وآذاننا من معلومات، المؤسف أن في تاريخنا الثقافي السابق، منهج تفكير شبه متكامل في التفكير النقدي، صحيح أن من جهر به وجد عنتاً من مجتمعه، ولكن الصحيح أنه ترك لنا قواعد لتطبيق ذلك المنهج، دونه سوف يسود التسمم المعلوماتي، وينتشر في جسم الأمة، وتساعد عليه اليوم عدد من وسائل الاتصال، والتي يرحب بها لدى كثيرين، لأنها تشيع ذلك الخدر اللذيذ!