عرفت فرنسا صعوبات كبرى في تشكيل الحكومة الجديدة، وهي صعوبات تعكس من جهة الأزمة السياسية والدستورية الكبرى في هذا البلد، ومن جهة ثانية هي تعبر عن الوضعية الحرجة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي غامر بتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة لمحاولة تدارك الهزيمة التي مني به فريقه الرئاسي في الانتخابات الأوروبية التي جرت في 9 يونيو الماضي وأسفرت عن انتصار تاريخي لليمين المتطرف بحصوله على أكثر من 31 % من الأصوات، ولكن نتائج هذه الانتخابات المبكرة جاءت عكس كل المأمول والتوقعات، فهي من جهة لم تمكن أي طرف حزبي من حيازة الأغلبية في الجمعية العامة، وهي إلى ذلك عمقت أكثر الأزمة السياسية والدستورية في فرنسا، وخلقت مشهداً سياسياً غير مسبوق، وأدخلت نظام الحكم في دوامة الأزمة الدستورية المستفحلة، والتي يبدو أنه من الصعب، وربما من شبه المستحيل، التخلص منها.

واحتدت الأزمة أكثر مع رفض الرئيس الفرنسي تعيين رئيس وزراء ينتمي إلى تحالف اليسار الحائز على أعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات.

وبدا أن الإصرار على عدم الاعتراف الفعلي بنتائج الانتخابات ورفض التصرف بمقتضى العرف الجاري به العمل في الجمهورية الخامسة الفرنسية، ورفضه تعيين مرشحة اليسار لرئاسة الحكومة لوسي كاستيتس، هو موقف لا ينوي الرئيس الفرنسي التراجع عنه.

ورغم كل المحاذير قرر إيمانويل ماكرون تعيين الوزير اليميني السابق ميشال بارنييه رئيساً جديداً للوزراء، وكلفه بتشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة، رافضاً بذلك بصفة نهائية فكرة تشكيل حكومة من الجبهة الشعبية اليسارية الجديدة، رغم تصدرها نتائج هذه الانتخابات التشريعية المبكرة، وهو قرار رأت فيه أطراف عدة «انقلاب على نتائج الانتخابات» و«إنكار غريب» للواقع الجديد الذي أضحى عليه المشهد الحزبي في فرنسا بعد الانتخابات.

هنري غينو مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزى وصل به الأمر إلى حد القول إن بعض الممارسات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من شأنها أن «تزعزع أركان الجمهورية الفرنسية».

ويبدو أن ماكرون وبشهادة جل الأطراف الحزبية والشخصيات السياسية «فشل في تجنيب المجتمع الفرنسي مخاطر الانقسام» بحسب المصدر ذاته الذي أكد على أن ماكرون «بالغ في تقدير الضروريات والتوازنات المالية والاقتصادية على حساب تماسك المجتمع»، وقد تجلى ذلك في عدد من الإصلاحات التي قام بها، وخصوصاً إصلاح نظام التقاعد الذي عارضه أغلب الأحزاب والمنظمات النقابية وأكثر من 80 في المائة من الفرنسيين.

وكثيراً ما يعاب على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه قليل الاستماع لنبض الشارع وللأجسام الوسيطة الحزبية والنقابية والمجتمعية عموماً، وحتى لمحيطه الضيق، وهو لذلك عادة ما ينفرد بأخذ القرار في عدد من المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المهمة والأساسية.

ولا يعتقد أن رئيس الحكومة المعين ميشال بارنييه قادر، رغم كفاءته وخبرته، على تشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل كامل الطيف السياسي من اليمين إلى اليسار، وذلك لسببين اثنين، أولهما الوزن الكبير للأحزاب المتطرفة من اليمين واليسار والرافض لمبدئي التعيين أو الانضمام للحكومة، وثانياً لرفض القوى الوسطية من اليسار مبدأ المشاركة في الحكومة المقبلة، وهو ما سيحصر هذه المشاركة في حزب اليمين الجمهوري التقليدي الذي يحتكم فقط على 6 في المائة من الأصوات في البرلمان، وكتلة التحالف الرئاسي المتحصل على 156 مقعداً، وربما يقع تعزيز التشكيل الحكومي بوجوه من اليسار لا وزن لها داخل أحزابها، في حين أن المطلوب لتحقيق الأغلبية هو 289 مقعداً، وهو ما يستوجب ضرورة دعم أطراف سياسية وازنة داخل البرلمان، وقد دفع هذا الوضع المراقبين إلى اعتبار أن الحكومة الجديدة، لو قدر لها أن ترى النور، ستكون في سياساتها ومواقفها رهينة أصوات اليمين المتطرف الذي يمتلك ورقة سحب الثقة منها في أي وقت.

ولا مهرب فيما يتأكد كل يوم من الاعتراف بأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يجني ثمار رؤيته الرافضة للأجسام الوسيطة الحزبية والنقابية، وهو يقف اليوم على مشهد نقابي ضعفت فيه القدرة التأطيرية للمنظمات النقابية، ومشهد حزبي تسيطر عليه قوى التطرف من اليمين واليسار، وشعب قرر معاقبة الجميع أمام استمرار السياسات ذاتها، ويعلمنا التاريخ أنه يجب الاستماع إلى نبض الاعتدال في الشارع ولدى الأجسام الوسيطة، وإن الشعوب قد لا تكون دوماً على حق، ولكنها هي من تحسم الأمور مهما كانت طبيعة الأنظمة، وفي الغضب تتساوى كل الشعوب، والتاريخ يعلمنا كذاك أن البديل عن ذلك خراب ودمار للدول والمجتمعات.