عندما سُئل الشاب الذي حاول اغتيال الروائي نجيب محفوظ: لماذا طعنته؟ برر للمحققين فعلته الشنيعة. وحينما سُئل: هل قرأت شيئاً من رواياته؟ قال: لا! هنا كانت صدمة الجميع. كيف يتجرأ أحد على التعدي على آخر، لم يفهم أفكاره ولا مقاصده ولا نواياه؟

والاعتداء ليس بدنياً فحسب، فنحن نشاهد على مدار الساعة هجوماً لفظياً متكرراً، يبدأ في ساحات المدارس والمنازل وبيئات الأعمال، الذي يبدو أنه لم ينل حظه الكافي من استيعاب الآخر، ناهيك عن تقبله.

الأصل في الحياة الاختلاف والتغير. ولذلك قيل: «الثابت الوحيد في هذا الوجود، هو التغيير» (وليس الجمود). فنحن نغير أفكارنا وقناعاتنا وقراراتنا، بفضل تراكم الخبرة والنضج. وقد يغير البشر بعضاً من مبادئهم، بعد الصدمات الكبرى التي تزلزل كيانهم. ولذلك، لا مكان في هذه الحياة للتشبث بالأفكار والمعتقدات الثابتة، وهذا ما يسمى بـ «الدوغماتية»، نسبة إلى أصل الكلمة اليونانية «دوغما»، وتعني «العقيدة» أو «الرأي المعتقد».

وما أقصده ليس العقائد الدينية بالضرورة، ولكن فكرة التعصب للرأي الذي قد يختلف فيه الناس. الأصل أنني أخرج من منزلي لأقابل أناساً، جلهم يختلفون معي في الرأي، وهذا لا يعني أنني يجب أن أبقى في موقف دفاعي طوال الوقت.

كما أن أصل فكرة الدفاع عن الرأي، تقتضي سماع الرأي الآخر، حتى نستعد له بالحجج الدامغة، وليس اللجوء إلى التجاهل أو عدم الاحترام. فكثير من الأفكار والآراء التي كنا نحاربها بشدة، عدنا إليها بعقلية منفتحة ومتقبلة، بعد ردح من الزمن. فعلى سبيل المثال، كان تعليم المرأة في المدارس النظامية، من أشد التابوهات في بعض الأقاليم العربية، ولكنها شقت لاحقاً طريقها نحو أعلى سلم العلم، وصارت وزيرة وسفيرة ومعلمة وطبيبة.

الحكمة تقتضي عند مناقشة من يختلف معي، أن أترك مسافة كافية من الاحترام لوجهة النظر، مهما كانت صادمة، لأسباب عدة. منها منح أنفسنا متسعاً من الوقت للتأمل في الموضوع من جوانب عدة، لأن التسرع قد يضع الإنسان في موقف دفاعي، أو «تأخذه العزة بالإثم»، فلا يتراجع. كما أن هذه المسافة تحفظ شيئاً من وشائج المودة بين الطرفين، فليس كل اختلاف يستحق المواجهة. ولذلك، تجد الفطن من يدخر معاركه لقضايا مصيرية.

ويظهر فكر الجمود أو الدوغماتية في شتى مناحي الحياة. ففي السياسة، نشاهده في التشبث الأعمى بالآراء الحزبية، دون مراعاة للاختلافات والظروف المتغيرة. وفي الدين، يظهر في رفض تقبل مذاهب ومعتقدات مختلفة، رغم وجاهة الدليل، ما قد يؤدي إلى التفرقة أو الصراع. وفي بيئة العمل، يظهر في تزمت المسؤول عند رفضه المتكرر لاقتراحات العاملين، بسبب إيمانه بأنه الوحيد القادر على اتخاذ القرارات «الرشيدة».

في العمل تحديداً، لا بد من تشجيع فكرة التفكير النقدي البناء، لأنه عدو الجمود، ويخترق المسلمات والتابوهات، ليناقش الفكرة أو العمل من جميع جوانبه (وليس صاحبه). ولو لم يخلع أصحاب الأعمال الإبداعية رداء الجمود، لما انطلقوا نحو آفاق التفكير الخلاق.

معضلة «تعويد» الناس على «التحجر الفكري»، تكمن في أنها تدفعهم نحو التردد في إبداء أي رأي مهما كان وجيهاً. مع مرور الوقت، تتشكل ثقافة سائدة لا تكترث بشيء، تنعكس آثارها على خدماتنا ومنتجاتنا وحواراتنا. وهذه أخطر مرحلة في أي منظمة أو دولة، لأنها بداية حقبة التراجع. ولذلك، كان هامش الحرية خياراً صحياً، لتُصقل الأفكار ومشاريع القرارات جيداً قبل أن ترى النور.

كيف للسفينة أن تمضي، ومرساتها تكبلها في أعماق البحر؟ وكذلك أفكارنا وآراؤنا الجامدة، حتماً ستؤخرنا عن المضي قدماً في حياة جُبلت على تقبل التغيير.