منذ فترة طويلة كتب المرحوم أحمد بهاء الدين، وكان كاتباً سياسياً لامعاً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أن المعركة بين العرب أو بين الفلسطينيين والإسرائيليين معركة علم ومعركة تحضر. تلك فكرة مركزية لم يهتم بها أحد طوال أو معظم فترة الصراع قبل عام 1948 وما بعده وحتى اليوم.

صور القتلى والجرحى في بيروت الأسبوع الماضي، التي طافت العالم، تبين من جديد صحة ما ذهب إليه أحمد بهاء الدين، ورجال ونساء من أمثاله، تبنوا الفكر العقلاني.

وإذا كانت المعركة هي معركة علم وتقنية، وتعني تقديم العلم في أي قرار سياسي أو عسكري على أي عنصر آخر، سواء كان عاطفياً أو تراثياً، فإن هذه هي القاعدة التي يتوجب الأخذ بها.

قادت مقاومةَ إسرائيل دولٌ وميليشيات أو جماعات كانت وما زالت تقابل العلم والتقنية بأغاني الانتصار، وبالعجز الكامل عن فهم العصر.

في سبعينيات القرن الماضي كانت شركة أرامكو السعودية ترسل مبتعثين للدراسة في بيروت إلى الجامعة الأمريكية، وقتها كان المدير الأمريكي للشركة (1973 1978-) فرانك غنفلر يزور مبتعثي الشركة، ويلتقي سياسيين ورجال أعمال للمناقشة وتبادل وجهات النظر، وقد كتب مذكراته ونشرها، قرأ الكتاب ولخصه الصحافي اللبناني جهاد الزين ونشره من ضمن كتابه «حرائق في ثقافتنا السياسية».

يقول المؤلف الأمريكي إنه مدعو إلى الغداء في بيروت مع القيادة الفلسطينية وقتها، من ياسر عرفات إلى جورج حبش، وغيرهما، أثناء النقاش قال جورج حبش: «أنتم أكبر شركة نفط عالمية، فماذا لا تشترون أعضاء مجلس الشيوخ وعددهم مائة فقط كي يقفوا مع القضية الفلسطينية؟»، فكان الرد: «الأفضل أن نشتريكم أنتم، فأنتم أقل من مائة وربما أرخص لنا!!» رد موجع ينم عن أن القائد لا يعرف العالم حوله وكيف يدار!

هذا النقاش ربما هو الذي أوحى لجهاد الزين، وهو على مسار أحمد بهاء الدين، أن يعنون كتابه بذلك العنوان الموجع «حرائق في ثقافتنا السياسية»، إنها بالفعل حرائق وقودها الجهل وعدم المعرفة بالعالم.

وقد تكررت عناصر الجهل وعدم المعرفة في الحروب التي تم خوضها مع إسرائيل، ففي اجتماع في الجامعة العربية، قال رئيس الجمهورية السورية، أمين الحافظ، رئيس بين 1963–1966، والجميع يناقش تحويل مجرى نهر الأردن، قال للحاضرين: «أعطوني أسبوعين وأنا أزيل إسرائيل!».

هذا النوع من التفكير صاحبنا أو قل صاحب الكثير من متخذي القرار العربي، وتسرب إلى الجماهير تحت غطاء أيديولوجي يساري، وآخر تحت غطاء أيديولوجي تراثي.

حتى يومنا هذا من يجرؤ على محاولة الحديث عن رأي آخر يعلي التفكير العلمي والعقلاني لمواجهة هذه الكوارث من نتائج الصراع يواجه بكم ضخم من التشويه والتكفير وتهم الخيانة.

السؤال: كم لدى إسرائيل من مراكز بحث مهتمة بالبحث العلمي؟ كم لديها من مراكز بحث مهتمة بمعرفة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية العربية؟ كما لدى الفلسطينيين ودول تسمي نفسها محور المقاومة من مراكز بحث؟!

عندما يتخذ قرار الحرب من دون دراسة العناصر التي قد تدخل في سياق الأحداث اعتماداً على أفكار عاطفية، فإن النتيجة معروفة مسبقاً.

لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً في هذا الصراع، وذهب بعض قادة له أو لبعض فصائله لحرب الإخوة، وتوزيع الاتهامات، وآخرون ألحقوا أنفسهم بمشروعات إقليمية معروفة الأهداف، وهو طريق يسير خارج العلم، وخارج المصالح، ومدمر، بل البعض يذهب إلى التنجيم وإشاعته بين العامة، ولدينا عدد وافر من تلك القيادات حتى يومنا هذا، فمن دون الاعتماد على العلم في فهم ومواجهة التحديات نكون قد أبحرنا في ليل مظلم!