الهجرة والتراث وتفاعل الثقافات

تبرز الهجرة كإحدى أبرز الظواهر التي تؤثر في المجتمعات، وتعيد تشكيل معادلاتها الثقافية والاجتماعية، وعبر التاريخ، كانت الهجرة قوة محركة للتحولات الكبرى في المجتمعات.

ففي الإمبراطوريات القديمة، مثل الإمبراطورية الرومانية، كان تنوع الثقافات الذي نشأ نتيجة الهجرة والتوسع الإقليمي يمثل تحدياً وفرصة في آن واحد.

هذا التنوع أتاح تفاعلاً خلاقاً بين الثقافات المحلية والثقافات الوافدة، ما أدى إلى إنتاج ثقافات هجينة، أغنت الإرث الإنساني بشكل عام.

ويخطر ببالي سؤال مهم: كيف يمكن إدارة هذا التفاعل بين التراث الوطني والثقافات المهاجرة بطريقة تضمن الحفاظ على الهوية الوطنية، وفي الوقت ذاته تفتح المجال للتنوع الثقافي؟ قد يمثل هذا السؤال تحدياً للكثير من الدول التي تواجه موجات هجرة كبيرة، كما في أمريكا وأوروبا وغيرها.

ففي أوروبا، مثلاً، نجد أن دولاً مثل ألمانيا والسويد اعتمدت سياسات الإدماج الاجتماعي عبر توفير برامج تعلم اللغة والتدريب المهني للمهاجرين، بهدف دمجهم في المجتمع مع احترام ثقافاتهم.

وتختلف هذه التجارب عن فرنسا، التي تميل إلى نموذج «الانصهار الثقافي»، حيث يُطلب من المهاجرين تبني القيم الفرنسية كجزء من الهوية الوطنية الجامعة، أما في الولايات المتحدة، فالنموذج الأمريكي يتسم بما يمكن تسميته بـ«بوتقة الانصهار»، حيث تُدمج ثقافات المهاجرين ضمن القيم الأمريكية الأساسية، مع الاحتفاظ بتنوعها.

لكن في آسيا، نجد نهجاً مختلفاً تماماً.

فدول مثل اليابان وكوريا الجنوبية تتبع سياسات محافظة إلى حد ما، حيث تركز على حماية التراث المحلي بقوة، وتفرض قيوداً صارمة على هجرة العمالة الأجنبية.

في دولة الإمارات العربية المتحدة، تم تطوير نموذج متفرد يعكس فلسفة تقوم على التسامح الثقافي والتفاعل الإيجابي. الإمارات لا تستضيف الثقافات المختلفة فقط، بل ترى فيها إضافة تعزز من غناها الثقافي والاقتصادي.

من خلال المبادرات المختلفة، تعمل الدولة على تحويل التعددية إلى قيمة مضافة عبر تشجيع الحوار الثقافي وتنظيم الفعاليات التي تحتفي بالتراث الوطني بمشاركة جميع المكونات السكانية.

في الأبحاث، نجد أن كل دولة تتبنى نهجاً يتماشى مع ظروفها التاريخية والاجتماعية، وكل نموذج له نجاحاته وتحدياته، وأن الفهم العميق لهذه النماذج، مع استيعاب خصوصيات كل مجتمع، هو ما يتيح للمجتمعات تحقيق التوازن بين الحفاظ على الهوية الوطنية وإثرائها عبر التنوع الثقافي، لذلك يمكن القول أن «التراث هو قوة ناعمة يمكن من خلالها تحقيق التفاهم والتناغم في المجتمعات المتعددة الثقافات».

لا يمكن الحديث عن الهجرات والتنوع الثقافي في الإمارات دون التطرق إلى قلق المثقف الإماراتي وخبراء علم الاجتماع، قلق بدأ منذ عقود عندما ظهرت ملامح الخلل في التركيبة السكانية وبدأت الأسئلة تُطرح حول تأثير هذا الواقع على الهوية الوطنية.

فقد شعر العديد من المثقفين أن هذا التنوع الكبير، على الرغم من إيجابياته الاقتصادية والاجتماعية، قد يشكل تحدياً للهوية الثقافية الإماراتية، وهذا القلق ليس رفضاً للتنوع بحد ذاته، بل هو دعوة للتوازن بين الحفاظ على التراث المحلي وحمايته وتمكينه من أن يكون القاعدة التي تنطلق منها كل ثقافة جديدة إلى فضاء أوسع من التفاعل الإيجابي.

المثقف الإماراتي يرى أن الهوية الوطنية هي روح حية يعيشها كل فرد، ويخشى أن يصبح التراث مجرد رمز جانبي هامشي لا يعبر عن الحضور الحقيقي في الحياة اليومية. بلا شك، فإن دولة الإمارات قد استوعبت هذا القلق المشروع، وتبذل جهوداً كبيرة في الحفاظ على الهوية الوطنية وجعل التراث جزءاً من حياة الجميع، مواطنين ومقيمين، بشكل متوازن ومستدام.

وكانت رؤية التجربة الإماراتية هو أن التنوع السكاني الكبير يجب أن لا يكون تهديداً للهوية الوطنية والتراث، بل على العكس، يجب أن يكون فرصة لتعزيز روح التسامح والتفاعل الثقافي، وأن يصبح التراث وسيلة تفاعلية عميقة للتفاهم الإنساني والحوار الحضاري.

إضافة إلى ذلك، لابد من تبني استراتيجيات طويلة الأمد تشمل التعليم ودمج قيم التسامح وتقبل وفهم الآخر في المناهج الدراسية منذ المراحل المبكرة، بحيث ينشأ الجيل الجديد وهو يدرك أن الاختلاف ليس تهديداً، بل فرصة للتعلم والنمو من خلال تعزيز الصورة الإيجابية للتنوع الثقافي، وتسليط الضوء على قصص نجاح التفاعل الثقافي، وعدم إغفال أهمية التراث الثقافي غير المادي كأداة لتعزيز الحوار بين الثقافات.

الأهازيج الشعبية، الحكايات، والطقوس الاجتماعية يمكن أن تصبح وسائل لتبادل القيم والتجارب بين المجتمعات المختلفة.