على الرغم من كل المنغصات التي أصابت دول الخليج من القوى ما دون الدولة في المنطقة، والتنمر من أفراد ضاعت بوصلتهم، إلا أن قيادات دول الخليج تنادت وبسرعة للقيام بالمساعدة في الأزمة اللبنانية الحالية، والتي يعاني منها الشعب اللبناني منذ أسابيع وربما أشهر، حيث الوضع الإنساني لا يطاق، كما تم قبل ذلك في غزة.
الاعتدال الذي استنته قيادات الخليج جعل من الرياض مكاناً للقاءات دبلوماسية كثيفة لمحاولة الوصول إلى التهدئة، حتى لا تتدحرج الأمور إلى الأسوأ، وقامت دولة الإمارات بمبادرات إنسانية سريعة من أجل تخفيف الآلام في كل من غزة وبيروت، وأرسلت الكويت أطباء إلى غزة في حومة الحرب، ونشطت الجماعات المدنية للإغاثة، في السعودية والبحرين وعمان، وتم الاتصال من قيادات خليجية على أعلى مستوى مع القيادات اللبنانية، لتنسيق المساعدات الإنسانية.
المؤسف أن ما تورط به بعض الجماعات السياسية من حروب في عام كامل، بعيداً عن قواعدهم وجملة شعوبهم قد أوصل الجميع إلى هذا المأزق، وهو مأزق نراه كل يوم على شاشتنا في عيون البشر الذين وقعوا في مصيدة القتل والتشريد.
غياب الدولة في لبنان أصبح له زمن طويل، فقد كانت المعادلة مقلوبة، دولة لها سلطة نظرية مغلولة، غير محققة على الأرض، ودويلة لها كل السلطة، الأولى يمكن محاسبتها نظرياً، مع أن ليس لها قدرة السيطرة، والثانية لا يمكن لأحد أن يحاسبها، فأصبحت المرافئ والممرات من الدولة إلى خارجها بيدها، وعطلت القانون وأشاعت الخوف، كما عطلت المؤسسات، وعاثت في حياة الناس في الداخل والخارج حسب شهواتها.
على عكس ما تم في بلدان أخرى، حيث بناء الدولة وسيادة القانون وتنشيط برامج التنمية التي تبنتها قيادات الخليج، فازدهرت واستقرت، كما أن كل محاولات التحريض من البعض لتصديرها إلى البلدان المستقرة قد فشلت وخاب مسعاها، وتبين أنها جزء من بضاعة فاسدة تشيع الكراهية وتضعف الأوطان. إنه الفرق بين التفكير الصحيح والتفكير الأعوج، الذي يشيع وعياً كاذباً أدى إلى الفوضى.
هل هناك دروس يمكن استخلاصها مما نشاهد؟ قد يكون أول درس أن الدم أثقل من الماء، وأن التنمر لا يمحي المروءة، وأن العقل يسود على الحمق، وأن الشعارات لا تغني عن الأفعال، تلك بعض الدروس التي يمكن أن يستفاد منها، ولعل أهمها أن الوطن هو الذي يجب أن يقدم على ما قبل الوطن، وما فوق الوطن.
لقد فرط كثيرون بأوطانهم، وغيروا الولاء للأرض والأخوة إلى الولاء للغير، وشدوا من عصب العداء والطائفية، وأنكروا على أنفسهم الأمن، ودخلوا في حروب أهلية ساخنة وباردة، فما كانت النتيجة إلا الخذلان والشتات وخسارة الأوطان.
في هذا الضباب السياسي الذي يحيط بنا والمخاطر الشاخصة، تبقى دول الخليج عمود الخيمة، والتي أريد هز أركانها، وتبقى صامدة ومصدر فزعة ومكان جبر للخواطر. وقد ثبت من حكمة قياداتها أنها لم تنجّ شعوبها من المخاطر فقط، ولكن أصبحت سنداً لمن خاطر بوطنه وغامر به من دون بصيرة.
هذه البقعة من الوطن العربي كانت بمنجاة من الاضطراب؛ لأن قياداتها من نسيج شعبها، وعينها دائماً على الصالح العام، وأهدافها هي الخير العام، وليس الاستحواذ لتحقيق الخير الخاص.
فعلى كل من تنمر ولا يزال أن يعيد حساباته، فقط ربط نفسه بقوى تقدم مصالحها على مصالحه لأن جلدتها غير جلدته، وهي معنية بعدّ الجثث، لا بتطبيب الجراح.