تعد السعودية من أوائل الدول المؤسسة للأمم المتحدة والموقعة على ميثاقها بمدينة سان فرانسيسكو في 26 يونيو من سنة 1945، أي قبل دخول الميثاق حيز التنفيذ في 24 أكتوبر من العام نفسه.
ومذاك توالى على رئاسة بعثتها لدى المنظمة تسعة سفراء على النحو التالي: أسعد فقيه (1948 وحتى 1954)، أحمد الشقيري (1955 ــ 1962)، جميل البارودي (1963 ــ 1979)، سمير الشهابي (1983 - 1992)، جعفر اللقاني (1992 ــ 1999)، فوزي عبدالمجيد شبكشي 1999 ــ 2006)، خالد عبدالرزاق النفيسي (2006 ــ 2011)، عبدالله المعلمي (2011 ــ 2022)، والدكتور عبدالعزيز الواصل (من 2022 إلى الآن).
وسيقتصر حديثنا هنا على السفير ما قبل الأخير لدى الأمم المتحدة عبدالله بن يحيى بن عبدالله بن عبدالرحيم المعلمي الذي ودع منصبه في أغسطس من سنة 2022 بعدما ظل اسماً متداولاً في أروقة مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة ووسائط الإعلام العربية والأجنبية على مدى 11 سنة خاض فيها العديد من المعارك والمناظرات الدبلوماسية بثقة واقتدار، رافعاً صوت وطنه السعودية عالياً، مدافعاً عن حقوق العرب بالمنطق والحجة، ومنافحاً بجسارة عن المواقف المشتركة لبلاده وشقيقاتها من دول الخليج إزاء القضايا الإقليمية والدولية العديدة من تلك التي سيطرت على المشهد السياسي إبّان فترة عمله في نيويورك.
والغريب أن المعلمي استطاع أن يبلي بلاء حسناً ويظهر قدرات دبلوماسية وخطابية لافتة للأنظار، ويتحلى بالحنكة وفخامة اللغة والتصريح المهذب والنفس الطويل إبان سنوات عمله هناك، على الرغم من أنه جاء إلى ميدان الدبلوماسية من خارج كوادر الخارجية السعودية ولم يعمل طويلاً في السلك الدبلوماسي قبل مجيئه إلى نيويورك، ناهيك عن بعد تخصصه الأكاديمي عن علوم السياسة والدبلوماسية والعلاقات الدولية.
فهو القائل، في محاضرة أدبية دبلوماسية له بمدينة الدمام، نشرت نصها صحيفة «اليوم» السعودية (2/6/2016): «لقد ذكرت أن علاقتي بالدبلوماسية علاقة ضيف طارئ، ولكن خلف هذه العلاقة قصة طريفة أرويها لكم، فحينما كنت طفلاً صغيراً في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة كنت إذا سئلت ماذا أريد أن أصبح حينما أكبر، لم أكن أجيب بالجواب التقليدي وهو طبيب أو مهندس أو ربما طيار، ولكنني كنت أقول إنني أريد أن أكون سفيراً.
وكنت آنذاك أهوى جمع الطوابع وعبرها سعيت إلى التعرف إلى بلدان العالم، واجتهدت في حفظ أسماء الدول وعواصمها ورؤسائها ورسم خرائطها وأعلامها، وكنت أصنع بذلك الجداول الملونة وأحدثها وأصححها في كل مناسبة، وكنت أتابع برقيات القيادة إلى رؤساء الدول في الأعياد والمناسبات لأعرف منها أسماءهم، وكنت أرتاح لإمبراطور الحبشة هيلاسيلاسي وإمبراطور اليابان هيروهيتو لأنهما كانا ثابتين لا يتغيران، وكانت ترهقني أسماء قادة أفريقيا وأمريكا اللاتينية لكثرة تغيرها نتيجة الانقلابات المتكررة فيها، وكنت إذا سئلت لماذا أبذل هذا الجهد؟ أجيب بأنني سوف أصبح سفيراً ولكنني لا أعلم أين ستكون وجهتي ولذلك فإن علي أن أكون مستعداً حتى لا أجد نفسي وقد أرسلت إلى دولة لا أعرف اسم رئيسها أو ما عاصمتها».
ثم استطرد فأخبرنا أنه ورث حب الأدب وتذوق الشعر وعشق اللغة العربية والخطابة من والده الأديب، ومن قراءاته المبكرة في المرحلتين الإعدادية والثانوية في مؤلفات أعلام الأدب المصري، ليجد نفسه وهو في العاشرة يلقي خطاباً أمام الملك سعود مرة في مكة ومرة أخرى في أبها في أثناء احتفالين شعبيين، مضيفاً إن ذلك ساعده كثيراً في ما بعد في مهمته داخل أروقة الأمم المتحدة التي تتطلب إلقاء الخطابات والدخول في سجالات وإسناد المواقف السياسية بأبيات من الشعر، على نحو ما فعله قبله دبلوماسيون عرب كبار.
ولد المعلمي في 5 مايو من سنة 1952م بمدينة القنفذة على ساحل البحر الأحمر والتابعة إدارياً لمنطقة مكة المكرمة، ابناً لعائلة المعلمي المعروفة والتي تعود أصولها إلى بني عوف من قبيلة ثقيف التي تمتد منازلها في الحجاز، ولا سيما حول الطائف، علماً بأن لعائلة السفير ذكراً في تاريخ المملكة المعاصر فجده عبدالله كان عاملاً للإمام الإدريسي على بعض مناطق المخلاف السليماني (منطقة جازان حالياً وكانت قديماً تمتد من الحديدة جنوباً إلى الليث شمالاً) الخاضعة لحكمه آنذاك، فساس أمورها وطبق شرع الله على العابثين والمفسدين فتربصوا به وذبحوه بوحشية انتقاماً، وحينما فتح الملك الموحد عبدالعزيز منطقة عسير وتهامة وضمها إلى ملكه تبنى أبناء الفقيد (يحيى ومحمد) وأجرى عليهما مرتباً ذا قيمة ومنحهما بيتاً كبيراً في مكة المكرمة، طبقاً لما كتبه عبدالعزيز البدر في مجلة الاقتصاد السعودية (8/2/2019).
نشأ المعلمي وترعرع في كنف والدته «معدية» ووالده ابن تهامة عسير الأديب الفريق يحيى بن عبدالله المعلمي (1928 ــ 2000) الذي ترقى في إدارات الشرطة حتى شغل منصب مساعد مدير الأمن العام وصار عضواً ممثلاً لبلاده في مجمع اللغة العربية في القاهرة، ولقب بـ«صاحب السيف والقلم»، وكانت له معارك أدبية مع العديد من الأدباء من مجايليه، واختير قبل وفاته من قبل مهرجان الجنادرية ليكون رجل الثقافة لسنة 2000، لكونه من رواد الأدب والكلمة والنقد وواجهة مشرفة للثقافة السعودية وأحد حماة الفصحى والمدافعين عنها بقوة.
شقيقته هي «آمال بنت يحيى المعلمي» التي صدر أمر ملكي في سنة 2020 بتعيينها سفيرة للسعودية في النرويج فأصبحت بذلك ثاني سفيرة سعودية من بعد الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان سفيرة خادم الحرمين في واشنطن منذ فبراير من سنة 2019.
وبمناسبة تعيينها؛ عبّر السفير عبدالله المعلمي في تغريدة له عن افتخاره واعتزازه بشقيقته، مرجعاً ما تحقق لهما إلى فضل والديه، بالقول: «ربيانا على حب الوطن والولاء لولاة الأمر وطلب العلم والجد في العمل».

تلقى صاحبنا تعليمه الابتدائي والإعدادي في ما بين مدارس مكة والرياض، متنقلاً مع والده حيثما أخذته وظائفه العسكرية والأمنية.
فمثلاً أنهى دراسته الابتدائية في سنة 1962 في مدرسة عرين النموذجية بالرياض قبل أن يكمل السنوات العشر من عمره، فكان أصغر طالب سعودي ينال الشهادة الابتدائية، فضلاً عن تفوقه فيها وبروزه ضمن الأوائل.
أما الثانوية فقد أتمها أيضاً في الرياض في مدرسة اليمامة الثانوية في أواخر الستينيات، ليحصل إثر ذلك على بعثة دراسية مع خمسة من أقرانه إلى جامعة ولاية أوريغون الأمريكية بمدينة كورفاليس.
وكان أحد زملائه الأكثر قرباً منه في الولايات المتحدة رجل الصناعة والأعمال سعد إبراهيم المعجل الذي وصف زميله المعلمي في كتابه «الصناعة كما عشتها» (دار تشكيل للنشر والتوزيع/الرياض/2022) بالطالب المجتهد المنافس له في مرحلتي الدراسة الثانوية بالرياض والجامعية في أوريغون، بينما وصف المعلمي زميله المعجل في الكتاب نفسه بالزميل الراقي المهذب، موضحاً أن ما جمعهما في الغربة هو حب العلم والجدية في الدراسة والاستقامة في السلوك ومساعدة الطلبة السعوديين الجدد واستضافتهم إلى حين استكمال تجهيز مساكنهم، ومعترفاً بأن المعجل كان أكثر منه سخاء وكرماً وتفوقاً في المعلومات المنهجية بينما كان هو أكثر تفوقاً عليه في الأدب والشعر والمعلومات العامة.
تخرج المعلمي في الجامعة الأمريكية في سنة 1973 حاملاً بكالوريوس الهندسة الكهربائية، وشرع فوراً في الالتحاق بجامعة ستانفورد العريقة لنيل درجة الماجستير التي نالها في العلوم الإدارية في سنة 1983، ليبدأ بعدها مسيرة علمية جديدة اشتملت على العديد من الدورات التدريبية في عدة جامعات عالمية ومنها جامعة هارفارد الأمريكية وجامعة غرينوبل الفرنسية.
وبعد عودته إلى السعودية عمل في القطاعين العام والخاص، متولياً العديد من المهام والمناصب القيادية على مدى ثلاثين عاماً، فكانت له إسهامات وأنشطة متنوعة في شركات ومؤسسات رائدة على الصعيدين المحلي والإقليمي.
كما قام بتأسيس «دار المعلمي للاستشارات» بمدينة جدة وتولى رئاستها حتى سنة 2001، وأسس شركة HBG الاستثمارية القابضة بمدينة دبي في سنة 2006 وتولى رئاسة مجلس إدارتها، ودخل ميدان العمل الدبلوماسي بتوليه منصب سفير خادم الحرمين الشريفين لدى مملكة بلجيكا ودوقية لوكسمبروج والاتحاد الأوروبي في الفترة من 2007 ــ 2011.
وميدان العمل الشوري بتعيينه من قبل القيادة السياسية عضواً في مجلس الشورى في الفترة 1997 ــ 2001.
ففي القطاع الخاص أو شبه الخاص تولى مناصب عدة وهي: مهندس كيميائي بمصفاة الرياض التابعة للمؤسسة العامة للبترول والمعادن (من 1973ــ 1975)، مساعد المدير العام للإنتاج بمصفاة الرياض للبترول (من 1975 ــ 1977)، المدير العام لشركة منتجات الألمنيوم المحدودة (من 1977 – 1987)، نائب الرئيس التنفيذي لشركة العليان السعودية القابضة (من 1987 – 1988)، الرئيس التنفيذي لشركة العليان السعودية القابضة (من 1988 – 1991)، نائب رئيس مجلس إدارة شركة العليان المالية (من 1991 – 1998)، مستشار مجلس إدارة شركة العليان المالية (من 2005 – 2008).
أما في القطاع العام فقد تولى منصب أمين محافظة جدة أربع سنوات متواصلة (2001 ــ 2005) بذل فيها الكثير في سبيل المدينة التي عشقها لجهة الاهتمام بنظافة حدائقها وكورنيشها واعتماد خطط لتطويرها وتجميلها وإقامة الفعاليات الصيفية والعروض التراثية والحرفية ومسابقات الصيد والقوارب البحرية ومعارض الفنون التشكيلية وغيرها.
وكان المعلمي قبل توليه أمانة محافظة جدة عضواً في هيئات ولجان ومجالس عديدة مثل: مجلس إدارة المؤسسة العامة للصناعات الحربية، مجلس إدارة المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني، مجلس منطقة الرياض، المجلس المحلي لمحافظة جدة، اللجنة الاستشارية لوزير التجارة الخاصة بمفاوضات منظمة التجارة العالمية، الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية.
ويذكر أنه بعد تركه أمانة مدينة جدة في سنة 2005 تمّ تعيينه رئيساً لغرفة تجارة وصناعة جدة، وهو المنصب الذي تركه إثر خلاف مع مجلس إدارة الغرفة، فانتقل منها إلى الغرفة التجارية الصناعية بالرياض.
وعلى الرغم من مشاغله وأعبائه فقد حرص على أن يطل على قراء صحيفة المدينة عبر عمود أسبوعي بعنوان «أفكار للحوار»، جمعها لاحقاً في كتاب من أربعة أجزاء حمل العنوان نفسه وأصدرها في السنوات ما بين 2007 و2011.
إلى ذلك كتب العديد من المقالات الصحفية الأخرى في الأدب والاقتصاد والإدارة، وحاضر باللغتين العربية والإنجليزية في شتى المجالات، وأصدر في سنة 2007 كتاباً تحت عنوان «تحت قبة المجلس» ضمنه تجربته في مجلس الشورى السعودي، ثم كتاباً آخر في سنة 2009 بعنوان «أبكيك يا أبت»، وفاء لذكرى والده الذي يدين له بأفضال كثيرة وكان قطعة من روحه، وليس أدل على ذلك من القطعة الأدبية الحزينة التي كتبها بنفسه في صحيفة «الجزيرة» (22/7/2003)، وأفرغ فيها ذكريات ومشاهد مؤثرة عن أبيه الراحل.
فقد كتب ما مفاده أنه لا يمر عليه يوم منذ تاريخ وفاة أبيه إلا ويشتاق له، ويستذكر سيرته، ويراجع شيئاً من أقواله أو كتاباته أو أعماله، ويترحم عليه، ويناجي طيفه أو يتخيل مواقفه وردود أفعاله تجاه الأحداث، مضيفاً: «اختلت فخراً حينما تصفحت أوراق كتاب (أنباء نجباء الأبناء) للإمام الفقيه ابن ظفر المكي الصقلي، والذي قام والدي بمراجعته والتعليق عليه قبيل وفاته وتكفل نادي مكة الثقافي الأدبي مشكوراً بطباعته، فحاورته في خيالي عن كثير من الأخبار والأحداث والمواقف، وتصورته باسماً تارة ومستاء تارة أخرى، ومتأملاً مرة ومتفائلاً كعهده مرات» وفي موضع آخر من المقال نفسه نجده يعدد مآثر أبيه فيقول: «إن من أكثر ما يسعدني ويشرح قلبي أن ألتقي إخوة كراماً من أبناء قوات الأمن الداخلي فيبادروني بذكر والدي والترحم عليه والاعتراف بأستاذيته وأبوته لهم، وما تركه لهم في قطاعات الشرطة والمرور والنجدة والسجون من قواعد وبرامج.
فقد كان، رحمه الله، أول من جعل للشرطة دوراً ثقافياً، وأول من أسس في الأمن العام مكتباً ثقافياً وإدارة للعلاقات العامة، وأول من أدخل في الشرطة برامج محو الأمية، وأسس شرطة النجدة، وأول من وضع نظاماً للمرور وأدخل الإشارات الضوئية واستخدم تعبير النزلاء بدلاً من السجناء وأدخل التقنيات الحديثة في قطاع الأمن، ولعله أول ضابط يحصل على الماجستير في إدارة الشرطة من الولايات المتحدة ويمارس التدريس في معهد الإدارة العامة».