كل مدينة تروى حكايتها بطريقة وبأسلوب معين، ولكن أجمل المدن تلك التي تحفظ هويتها في ملامح تاريخها، تنقلها عبر الأجيال كحكاية تظل نابضة بالحياة، تصوغ بها حاضرها وتؤسس بها لمستقبلها. أم القيوين، تلك الإمارة التي تقف بثبات بين ضفاف الخليج العربي وأعماق الصحراء، لم تكن مجرد نقطة على خريطة الزمن، بل كانت ولا تزال موطناً للهوية والتراث، وسجلاً حياً للحضارة، وشاهداً على مراحل التحولات الكبرى في تاريخ الإمارات.
منذ أن استوطن الأجداد في جزيرة السينية قبل مئات السنين، حملت أم القيوين في جغرافيتها أسرار البحر والصحراء، وشكّلت مركزاً لحياة اتسمت بالتنوع والتفاعل مع الطبيعة والإنسان. كان أهلها بحارة وصيادي لؤلؤ، وكان تراثها ممتزجاً بأغنيات السفن، ومواويل الغواصين، وخطوات الصيادين الذين صنعوا مجدها فوق مياه الخليج.
موقع الدور الأثري، الذي يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، يحكي عن أقدم المدن التجارية التي ازدهرت هنا، وعن معابدها التي كانت مراكز للحياة الروحية، وعن سكانها الذين تفاعلوا مع العالم من خلال طرق التجارة البحرية.
في كل حجر من أحجار هذا الموقع، وفي كل قطعة أثرية تُعرض اليوم في متحف أم القيوين الوطني، تتجسد قصة شعب امتلك الحكمة، وأتقن التجارة، وعرف كيف يبني مجتمعه عبر العصور. أما حصن فلج المعلا، فهو شاهد آخر على عراقة هذه الأرض، يعود تاريخه إلى عام 1800، وكان نقطة ارتكاز لحماية الإمارة، وملاذاً للقيادة الحكيمة التي جعلت من أم القيوين حصناً منيعاً أمام التحديات.
جزيرة السينية، التي كانت موطناً لقبيلة المعلا قبل انتقالهم إلى اليابسة، لا تزال تحتفظ بمساجدها القديمة، وأطلال بيوتها التي تروي قصة البدايات، حيث كانت الأرض ممتدة بين البحر والصحراء، وحيث ولدت الأحلام الأولى التي شكلت وجه الإمارة.
حين تولى صاحب السمو الشيخ سعود بن راشد المعلا، عضو المجلس الأعلى حاكم إمارة أم القيوين، مقاليد الحكم عام 2009، حمل معه رؤية تستلهم من الماضي أفقها، وترسم من التراث هوية المستقبل. كان سموه قائداً يقرأ التاريخ بعمق، وكان صانعاً له أيضاً، فقد أدرك أن المدن العظيمة العريقة تنهض على الوعي العميق بجذورها، وعلى صون ذاكرتها من الاندثار.
عمل سموه على تحويل إمارة أم القيوين إلى مركز للتراث والسياحة والثقافة، وأطلق مشاريع نوعية جعلت من هذه الإمارة وجهة تجمع بين الهدوء والثراء التاريخي.
كان متحف أم القيوين الوطني، الذي يمتد على مدى أكثر من 250 عاماً، الذي يحتضن آثار منطقتي الدور وتل الأبرق، التي تعود لآلاف السنين، وهي موجودة في القاعتين الثالثة والرابعة من المتحف الذي يقع في حصن آل علي، حيث أرسى قواعده الشيخ راشد بن ماجد المعلا عام 1768، ليكون مركزاً للحكم ومسكناً للعائلة الحاكمة، فأصبح المتحف أحد المشاريع التي حافظت على روح المكان، حيث أصبح بوابة ثقافية تربط الماضي بالحاضر، وتعيد تقديم التراث بروح معاصرة.
في المسرح الوطني، حيث يحيي الفنانون الإماراتيون تراث الأغنية الشعبية والمسرح التقليدي، تتجلى ملامح التحول الثقافي الذي تعيشه الإمارة. وفي ملتقى الأجيال التراثي، حيث يجتمع كبار السن والأطفال حول الحكايات الشعبية والصناعات التقليدية، يظل التراث جزءاً من الحياة اليومية، لا مجرد ذاكرة محفوظة في الكتب.
أم القيوين التي أزورها بشكل دائم، وألتقي أهلها الطيبين الرائعين الودودين وأزور شواطئها الساحرة، مع أحفادي معظم الوقت، خاصة في كورنيش البيت متوحد الذي يخلب العقول، أجدها دائماً تعيد تشكيل حاضرها بطريقة تحافظ على خصوصيتها الفريدة. في السنوات الأخيرة، تحولت إلى وجهة سياحية فريدة، تجمع بين الطبيعة العذراء والمواقع التاريخية.
سياحة المغامرات والتراث باتت جزءاً من هوية أم القيوين الحديثة، فمن سباقات الهجن التي تحاكي روح البداوة إلى رحلات القوارب التقليدية التي تعيد إحياء تجربة البحارة الأوائل إلى التجديف في خور أم القيوين، حيث يلتقي الماء بالتاريخ في مشهد يأسر القلوب.
حين ننظر إلى أم القيوين اليوم، نرى إمارة تحافظ على ملامحها الأصيلة، لكنها تتطلع نحو الغد بروح التجديد، لم تفقد هدوءها أمام زحام الحداثة، ولم تفرط في تراثها لصالح التطوير، بل اختارت أن تسير في طريق يجمع بين الجمالين، لتبقى وجهة تراثية وسياحية تُلهم كل من زارها أو سمع حكاياتها. شكراً سعود المعلا؛ لأنك جعلت من أم القيوين مهداً للهوية والتراث، وواحة تحفظ للزمن ذاكرته، ووجهة تجمع بين روح التراث وملامح المستقبل.