في ثمانينيات القرن الماضي، وفي أثناء دراستي العليا في الولايات المتحدة، قدمت ورقة بحثية بعنوان «من سيطعم الصين في القرن المقبل؟»، توقعت فيها حدوث مجاعة في الصين في القرن 21 بسبب الزيادة السكانية الهائلة من جهة، وتقلص المساحات الزراعية لمصلحة التوسع الصناعي الهائل من جهة أخرى.
لم تصدق توقعاتي، بطبيعة الحال، لأن القيادة الصينية تنبهت مبكراً للقضية واتخذت من الإجراءات ما حال من دون حدوث المجاعة، وقد ساعدها على ذلك نمط نظامها الشمولي، وعلاقاتها الجيدة بموردي الطعام العالميين، وهما عاملان أسهما كثيراً في بقاء البلاد ضمن كبار منتجي ومصدري الطعام عالمياً، وتحقيق أكبر نظام للاحتياطات الغذائية.
اليوم تعود القضية نفسها إلى الواجهة، ولكن وسط بيئة عالمية متزايدة التعقيد، ومناخ جيوسياسي وجيواقتصادي هش، وتغير المناخ، واضطرابات تجارية، وتوترات منهجية مع الولايات المتحدة، وسوق غذاء غير مستقر، ما جعل مرونة الإمدادات الغذائية بالنسبة للصين أكثر أهمية من أي وقت مضى، بحسب الباحثة والمحللة الاستراتيجية جنيفييف دونيلون.
وليس أدل على ذلك من إطلاق بكين «الوثيقة المركزية الأولى 2025» التي تتضمن التزاماً بضمان الأمن الغذائي للمليار ونصف المليار من الصينيين، وذلك من منطلق تحول الأمن الغذائي العالمي إلى مصدر قلق متزايد، ناهيك عن أنه يشكل أهمية محورية للاستقرار المحلي.
وتسعى الصين اليوم، بموجب استراتيجياتها الجديدة، وتعليمات زعيمها «شي جينبينغ» بأن «طعام الشعب الصيني لا بد من أن يصنعه الصينيون ويظل في أيديهم»، إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي وتقليل الاعتماد على المصادر الأجنبية وهذا هدف وطني له الألوية على غيره من الأهداف، وذلك عبر جملة من التدابير تشمل تعزيز الإنتاج المحلي وتوفير الاستثمارات الزراعية في خارج البلاد، وتطوير الصناعات الغذائية المحلية، والاهتمام بالأرياف وهياكلها وإداراتها، ومواردها، وتقديم القروض والحوافز للمزارعين، واستخدام التكنولوجيات الحيوية والذكاء الاصطناعي في الإنتاج، وزراعة أصناف جديدة من البذور الهجينة والمعدلة وراثياً.
وفي هذا السياق نجد أن بكين أولت، في وثيقتها المشار إليها، إنتاج الحبوب (القمح والأرز) اهتماماً خاصاً باحتسابه يشكل أهمية مركزية في السياسات الغذائية الصينية، ومادة أساسية في طعام الفرد الصيني، بدليل أن الصين استوردت العام الماضي وحده أكثر من 157 مليون طن متري من الحبوب وفول الصويا.
وعلى الرغم من ارتفاع مستويات إنتاج الحبوب محلياً إلى مستويات قياسية في السنوات الأخيرة (مثلاً وصل في سنة 2024 إلى نحو 707 ملايين طن متري)، وعلى الرغم من تطور عادات الفرد الصيني الغذائية بفعل تحسن دخله، وقيامه باستهلاك اللحوم والبيض والألبان أيضاً، فإن حاجة البلاد إلى زيادة إنتاج الحبوب مستمرة في النمو كثيراً.
ومن هنا، ركزت الوثيقة على ضرورة تأمين استقرار مناطق زراعة الحبوب في الحزام الاقتصادي لنهر يانغتسي، وتحسين إنتاج وجودة وتخزين المحاصيل، وتحفيز إنتاج الحبوب وفول الصويا والبذور الزيتية، والتنسيق بين المقاطعات الزراعية لتحسين التوزيع، وضمان استقرار الأسعار، أملاً بزيادة إنتاج الحبوب سنوياً بمقدار 50 مليون طن متري بحلول سنة 2030، مع تخصيص أكثر من 117 مليون هكتار من الأراضي الريفية لزراعة الحبوب.
غير أن مساعي الصين هذه يواجهها بعض التحديات المحلية والخارجية، منها الظروف المناخية القاسية، والقيود المتعلقة بالمياه والتربة الصالحتين، والضغوط الديموغرافية والبيئية التي تتطلب استثمارات ضخمة وتحولات في التكنولوجيا والبنية التحتية، ناهيك عن أن النموذج الزراعي الصيني يعتمد على المزارع العائلية الصغيرة التي يصعب تحديثها من ناحية التقنيات الزراعية وتوحيد الممارسات، بل يواجه أصحابها، ممن يملكون نحو 70% من أراضي الصين الزراعية، صعوبات في توفير أموال للتشغيل والتحديث والاستثمار.
وهناك تحدٍّ آخر يتمثل في أن زراعة بعض المنتجات في الصين أكثر لجهة التكلفة وأقل لجهة العائد مقارنة ببلدان أخرى (مثلاً إنتاج هكتار واحد من فول الصويا في الصين يبلغ نصف إنتاج هكتار منه في دول الأمريكتين، وكذا بالنسبة للذرة).
ولا ننسى هنا الإشارة إلى التحدي الديموغرافي المتمثل في الشيخوخة وانخفاض معدلات الخصوبة ثم تقلص حجم العمالة في القطاع الزراعي وأيضاً في القطاعات المساندة (مثل قطاع النقل والخدمات اللوجستية الضرورية لسلاسل التوريد الزراعية).
ففي سنة 2022 مثلاً كان نحو 24% من القوى العاملة يعملون في الزراعة وصيد الأسماك والصناعات ذات العلاقة، ويتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى 3% بحلول سنة 2050 لأسباب مختلفة مثل انصراف العاملين في الزراعة إلى قطاعات أكثر دخلاً في المدن، أو انخفاض عدد السكان في سن العمل.