لدينا مشهدان، الأول لمجموعة من بنات الإمارات يلعبن على المراجيح (المريحان)، ويغنين (يا بوي وین سایر... ساير طوى همباه، ساير بقطع لومي.. والحامض ما نباه)، والمشهد الثاني لباقي أطفالنا الذين يجلسون لساعات طويلة يلعبون ألعاباً إلكترونية مخيفة تتضمن القتل والتعذيب وخلافه!
المشهد الأول الذي يكرس الثقافة والموروث الشعبي والهوية الوطنية، حيث إن هذه الأغنية ومعظم أغاني التراث تنمي شعور الانتماء لدولة واحدة موجود في نفوس الشعب والمواطنين، وتشكيل إيمان حقيقي بوحدة الروح، مما يولد تعاطفاً وتماسكاً أساسه الروابط الروحية والاجتماعية، وتنمي أيضاً الهوية الشخصية الفردية، حيث تظهر دراسة أن المعتقدات الشعبية تعمل كأساس لبناء الهوية في المجتمعات التي تواجه تحولات سريعة.
والمشهد الثاني يكرس بلا شك انكساراً وانحرافاً شديد الخطورة على مجتمعاتنا وهويتنا، أليس كذلك؟
كم هو جميل مثلاً، في شهر رمضان المبارك، أن نرى معظم اعتقاداتنا الدينية والوطنية والشخصية وموروثنا التاريخي العريق، يبرز وينعكس على كل أوجه حياتنا، وبعد الأعياد، يبدأ يتلاشى تدريجياً، خصوصاً لدى أطفالنا والأجيال القادمة التي تتفلت للعودة إلى جهاز الآيباد والضياع في جنبات هذا العالم الذي ما عادوا يرون غيره بديلاً لهم.
من المسؤول عن ذلك فعلاً؟ هل هي الأسرة؟ أم مؤسسات التعليم؟ أم هي مسؤولية تقع أيضاً على مؤسسات التراث التي تجد صعوبة في الوصول إلى قلوب المستهدفين من الفئات المجتمعية، أو عدم قدرتها على التنسيق الكامل مع مؤسسات التعليم والأنظمة التربوية؟ وسأضع كل هذه التساؤلات جانباً لأناقشها في وقت لاحق، حيث استوقفني خلال عطلة الأسبوع بعض الدراسات التي تبحث في التحولات الاجتماعية المتسارعة، وبدا فيها أن النظام التعليمي قد أصبح كساحة صراع بين المعتقدات الشعبية الموروثة والقيم الكونية الحديثة.
وبما أن المعتقدات الشعبية قد شكلت على مدى قرون الهوية الجمعية والشخصية الفردية، فإن النظام التعليمي اليوم يواجه مأزقاً وجودياً: كيف يعيد صياغة دور المعتقدات الشعبية من معوق تنموي إلى ركيزة ثقافية؟ هذا السؤال يعيدنا إلى جذور العلاقة المعقدة بين التعليم كمؤسسة رسمية، والتراث كذاكرة حية تقاوم الاندثار.
توقفت عند دراسات مثل روبن هينسون (2001) وآوغز آيتنغا (2008) حول دور المعتقدات التربوية للمعلمين في فعالية التعليم وفحص المعتقدات المعرفية وعلاقتها بالمتغيرات الاجتماعية، كذلك دراسة حسنية منصور (2022) بعنوان «المعتقدات التربوية ودورها في تحقيق كفاءة معلمي التعليم الابتدائي»، وتبين لي أن المعلمين يواجهون معضلة (الروتينية) كملاذ آمن من مواجهة التراث، حيث يتضح أن المعلمين يواجهون ضغوطاً إدارية واجتماعية تدفعهم لاعتماد أساليب تدريس روتينية تهمش التراث الشعبي، أي أن المعلم يتحول إلى ناقل لـ «المعرفة المعلبة».
بينما يصبح التراث محتوى هامشياً في العملية التعليمية، كذلك فإن الضغط الإداري، أي التركيز على تحقيق الأهداف القياسية (كالدرجات والمناهج الموحدة)، يقلل من فرص توظيف المعتقدات الشعبية كأدوات تدريسية، ويساهم غياب تدريب المعلمين وعدم إلمامهم بأساليب دمج التراث في التعليم من الاعتماد على النمطية التي ترسخ التناقض القيمي، حيث يعيش المعلم صراعاً بين ولائه للتراث كجزء من هويته، وولائه للمؤسسة التعليمية التي تهمشه، وهذا الواقع يعيد إنتاج الانفصام الثقافي.
حيث يدفع ذلك أن يصبح المعلم ضائعاً في فهم دوره الأساسي الذي وجد له! بالنسبة للطلبة أنفسهم، ترى الدراسات أن هناك ما يسمى بالصراع بين الهوية المحلية والقيم الكونية، ففي غياب دمج المعتقدات الشعبية في المناهج، يحرم التلميذ من فهم جذور معتقداته، ليجد نفسه في صراع وجودي بين الهوية المحلية الموروثة عبر الأسرة والمجتمع (كالاعتقاد بـ «العين» وغيرها) وبين القيم الكونية المجسدة في المناهج العلمية التي تصور التراث كخرافة، وهذا الصراع ينتج انفصاماً داخلياً أيضاً.
حيث يحاول التلميذ التوفيق بين الذات المتدينة بالتراث والتي تجد في المعتقدات الشعبية تفسيراً للكون والحياة وبين الذات المتنورة بالعلم والتي ترفض أي معرفة لا تخضعها للتجربة والملاحظة، ولا شك أن النتيجة المتوقعة هي تراجع الثقة بالنفس، واضطراب في البناء النفسي.
كذلك يمكننا التوقف عند المناهج التي قد تتجاهل إلغاء للتراث، وهذا قد يبدو طبيعياً، حيث تركز المناهج الدراسية على المعرفة العلمية كحقيقة مطلقة، وهذا طيب، ولكنه بشكل مؤكد سوف يحول المعتقدات الشعبية كلها إلى خرافة يجب تجاوزها.
وهنا، تظهر إشكاليات عميقة وهي إشكالية (التجريد من السياق) والتي يمكن اختصارها في أن المعارف العلمية تقدم بمعزل عن البيئة الثقافية التي نشأت فيها، مما يفقدها القدرة على التواصل مع التلاميذ، والذي يؤدي لاحقاً إلى القطيعة مع الذاكرة الجمعية، حيث تصبح المعتقدات الشعبية (كالحكايات والطقوس) مادة للسخرية أو التحليل الأنثروبولوجي، بدلاً من كونها نظاماً رمزياً حياً.