في مايو 2016 انتخب الفلبينيون بنسبة 39% المحامي وعضو مجلس النواب وعمدة مدينة دافاو الجنوبية «رودريغو دوتيرتي» ليكون الرئيس السادس عشر لبلادهم لمدة ست سنوات انتهت في يونيو 2022، فكان الرئيس الأكبر سناً، والأول المنتمي إلى جزيرة «ماندناو» الجنوبية المضطربة، والأكثر إثارة للجدل في تاريخ الفلبين.
فخلال حملاته الانتخابية للرئاسة سنة 2016، وعد الناخبين علناً بأنه سوف يتخلص من مائة ألف شخص من المجرمين والمدمنين ومروجي المخدرات حال تسلمه السلطة، وسوف يلقي بجثثهم في خليج مانيلا كي تتغذى عليها الأسماك فتسمن. وفوق هذا، اعترف لجمهوره أنه قام شخصياً بقتل عدد من المشتبه بهم وهو يقود دراجته النارية، إبان عمله عمدة لمدينة دافاو.
وما أن تسلم السلطة، حتى بادر إلى عقد مؤتمر صحافي، تعهد فيه بالقضاء على تجار ومدمني المخدرات، بل حث فيه الناس على قتلهم، لأن قتلهم على يد أسرهم أمر صعب على حد قوله.
وهكذا راحت غرائبه تتوالى، حيث قام بالإعلان عن حماية أي شرطي أو ضابط من المساءلة القانونية إذا ما قتل مدمناً خارج نطاق القضاء. وقد جاء ذلك رداً على تقرير لمنظمة العفو الدولية في عام 2017، أفاد أن الشرطة الفلبينية تطلق النار على أشخاص عزل بعد مداهمة منازلهم بسبب الاشتباه بهم في قضايا المخدرات، وأن دوتيرتي يحثهم ويحميهم ويقدم لهم مكافآت مجزية على تلك الأعمال.
على إثر هذا التقرير بدأت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي منذ عام 2017 التحقيق في أعمال دوتيرتي، واتهمته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال فترة رئاسته، بل حتى قبل ذلك حينما كان عمدة لمدينة دافاو، ثم أصدرت مذكرة اعتقال بحقه بعد أن انتهت ولايته الرئاسية سنة 2022. والمعروف أن دوتيرتي حاول، دون نجاح، وقف التحقيق الدولي في أعماله من خلال الإعلان في عام 2019 عن انسحاب الفلبين من المحكمة (ردت المحكمة أن الانسحاب لا يؤثر على ولايتها القضائية لأن الجرائم ارتكبت إبان عضوية الفلبين في المحكمة).
وحينما تولى الرئيس الحالي فرديناند ماركوس الابن سلطاته الدستورية في 2022، لم يعر أي اهتمام بتنفيذ قرار المحكمة، وتمسك بقرار دوتيرتي بالانسحاب منها. وقيل وقتها إن الرئيس الجديد يرد الجميل لسلفه نظير دعمه السياسي له إبان الانتخابات الرئاسية. وحتى يناير المنصرم من هذا العام، التزم ماركوس بهذا الموقف بعناد، بدليل قوله إنه لن «يحرك ساكناً لمساعدة المحكمة الجنائية الدولية».
لكن ما حدث يومي 11 و 12 مارس 2025، يعطي مؤشراً على أن السياسة والمصالح الشخصية أفسدت العلاقة بين الرئيس الحالي والرئيس السابق وأنهت تحالفهما، ما أدى إلى قيام الأول بالتضحية بالثاني.
أعلنت الفلبين أن الشرطة احتجزت دوتيرتي إثر وصوله إلى مطار مانيلا الدولي قادماً مع أسرته من هونغ كونغ، وذلك بناءً على مذكرة توقيف صادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية، وأضافت الرئاسة الفلبينية إن دوتيرتي (80 عاماً) أصبح «اعتباراً من الآن في قبضة السلطات» داخل قاعدة جوية في مانيلا. وفي اليوم التالي، قررت مانيلا ترحيله إلى لاهاي ليواجه هناك الاتهامات الصادرة بحقه. وبهذا بات دوتيرتي أول رئيس سابق في آسيا سيمثل أمام المحكمة الجنائية الدولية، ورئيس الدولة الثاني الذي يقف أمامها من بعد رئيس ساحل العاج السابق «لوران غباغبو». وعلى حين أن المحكمة برأت الرئيس العاجي سنة 2019، فإنه من المستبعد أن يحظى دوتيرتي بالحكم نفسه لكثرة الأدلة ضده، ومنها اعترافاته العلنية بالقتل، والتي كان آخرها قوله في العام الماضي أمام جلسة استماع برلمانية إن إدارته قدمت أموالاً وحوافز لضباط الشرطة من أجل قتل مروجي ومدمني المخدرات.
والمتابع للشأن الفلبيني لا يجد عناءً كبيراً لجهة تفسير قرار ماركوس بتوقيف دوتيرتي وترحيله اليوم وليس قبلاً. فالرجلان اللذان كانا حليفين، انفرط تحالفهما أخيراً على خلفية ملفات داخلية وخارجية، ومنها الموقف من الصين والولايات المتحدة الأمريكية والتفاضل بينهما، كما قيل.
ففي ديسمبر 2024، أقصى ماركوس حليفه السابق دوتيرتي وابنته «سارة»، التي تشغل منصب نائب رئيس الجمهورية، من عضوية مجلس الأمن القومي (أعلى سلطة قرار في مجال الأمن القومي). صمت دوتيرتي وقبل قرار إقصائه على مضض، لكنه دفع بابنته للرد فقامت الأخيرة بفتح النار على ماركوس، بل هددته بالقتل، قائلة إنها أمرت أحد القتلة باغتيال ماركوس وزوجته إنْ تعرضت هي أو والدها للقتل. أما ردة فعل ماركوس فكانت غاضبة وتجلت في وصف دوتيرتي بـ «المدمن على المخدرات».