تهديد استراتيجي أم خيار الضرورة؟!

يلتقي عدد من الدول الأوروبية تتقدّمها فرنسا حول تقييم واحد على درجة من الخطورة، وهو اعتبار أنّ أوروبا عرضة «لتهديد وجودي» من الاتحاد الروسي الذي ما انفكّ، في تقدير هذه الدول، يُظهر «نواياه التوسّعية» تجاه عدد من الدول الأوروبية، وخصوصاً الشرقية منها.

وبالطبع فإنّ النتيجة المنطقية لهذا التشخيص هي التعبئة العامّة من أجل خوض حرب «محتملة ووشيكة» بحسب هذه الدول، والتهيُّؤ تبعاً لذلك لمواجهة قد تكون مدمّرة للجميع، وقدّر الاتحاد الأوروبي زائد بريطانيا أنّه حان الوقت كي تأخذ أوروبا زمام أمنها بأيديها رغم التكلفة الباهظة التي تفوق 800 مليار يورو سنوياً.

ويبدو أنّ التدهور في العلاقات بين أوروبا والولايات المتّحدة يثير الكثير من المخاوف، ويهدّد برفع أمريكا يدها عن منظومة الدفاع الأوروبية، وترك الدول الأوروبية لمصيرها، وتجلّت عملية فك الارتباط الأمريكي مع أوروبا في عديد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وخصوصاً نائبه جي دي فانس، وكترجمة لهذه التصريحات، أمعن البيت الأبيض في تهميش دور القادة الأوروبيين في المفاوضات مع روسيا بشأن اتفاق مع أوكرانيا.

وتتحمّل الولايات المتّحدة الأمريكية قرابة 70 في المئة من مجمل نفقات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتعيب واشنطن على الدول الأوروبية وكندا كونها مقلّة في الإنفاق على الدفاع داخل الحلف، وتطالب بالترفيع في نسبته إلى 3 في المئة من إجمالي الناتج القومي لكلّ دولة، وترصد الولايات المتحدة ميزانية ضخمة للدفاع بسبب التزاماتها الدولية في مناطق عدّة من العالم، وهو ما يبدو أنّه لم يعد مقبولاً من حكومة دونالد ترامب، حيث عبّر في أكثر من مناسبة وموقع عن إرادته التقليص من التواجد العسكري الأمريكي في الخارج.

وتفيد البيانات الرسمية، بأنّ لدى الولايات المتحدة أكثر من 80 ألف جندي في القارة الأوروبية وحدها، وهو عدد من المفروض أنّه سيتضاعف ثلاث مرات على الأقل في حالة تعرّض دولة من حلف الناتو لعدوان خارجي.

ومن المعلوم أنّ أيّ انسحاب عسكري للولايات المتّحدة من أوروبا سيترك فراغاً كبيراً، ما يدفع إلى حتمية تحقيق أوروبا لاستقلال منظومتها الدفاعية، وهي عملية قد تستغرق أكثر من عشر سنوات، بحسب الخبراء العسكريين، وبسبب أنّ الدول الأوروبية خفّضت بشكل كبير من الاستثمار في المجالات العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن التكلفة الاجتماعية الباهظة لهذه العملية، والتي لا قِبَلَ لعديد الدول والمجتمعات تحمّلها، نظراً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتأزّمة والتي ساهمت في خلق مناخات تطرّف فتحت طريق الحُكْمِ لقوى التطرّف بجميع أشكالها وفي عديد الدول الأوروبية، ما قد يؤدّي بالتدريج إلى تفكّك الاتحاد الأوروبي لا محالة.

ولعلّه من الضروري التأكيد أنّ العلاقات الدولية في مفترق طرق وأنّ مراكز القوّة لم تعد حصرياً لدى الدول الليبرالية، التي كانت تتقاسم منظومة قيم ومبادئ لم تعد في ما يبدو على جدول أوقات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يغلّب منطق السلم من أجل تسهيل المعاملات والاستثمار بقطع النظر عن النظم السياسية للدول، ولا يتردّد في استعمال القوّة أو التهديد بها لتحقيق أهدافه.

وفي المقابل لا تزال الدول الأوروبية تصرّ على التعاطي المشروط سياسياً مع الدول، وهو ما أفقدها تدريجياً مواقفها التقليدية في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.

وبالرجوع إلى ما يعتقده بعض القادة الأوروبيين «تهديداً وجودياً»، فإنّ اللافت والبيّن هو أنّ الدول الأوروبية ليست على استعداد لتحمّل تبعات هذا التوصيف والتشخيص، ما دفع دومينيك دي فليبان وهو من الوزراء المقرّبين من الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك إلى الحديث عن أنّ «الاتحاد الأوروبي أمام خيار استراتيجي» من أجل وضع أسس منظومة دفاع مشترك، وهو في تقديره وفي كلّ الأحوال «ليس أمام تهديد استراتيجي» من روسيا، وإنّ الفرق بين الاعتبارين هو الفرق بين الحرب والسلام.