تحديات القيادة الجديدة

حينما يتولى شخص زمام القيادة تحدث تغييرات جذرية على جميع الأصعدة. أحد الخيارات «ألا يحدث شيء» وهو أن يسير القائد الجديد على نهج سلفه فلا يلمس الناس تغييراً يذكر. تُسمى تلك الحالة في علم القيادة «ليز أفيير» laissez-Faire وهو مصطلح يُطلق على المسؤول الذي يرفع يده عن مجريات الأمور من حوله، أو يترك الحبل على الغارب، ولا يتخذ أي قرارات ملموسة.

هذا المصطلح فرنسي الأصل يستعين به علماء الإدارة حينما يصفون قائداً لا يكلف نفسه عناء متابعة اتباعه، ولا يتقصى ما يحدث من مشكلات. فهو لا يتظاهر - في الواقع - بعدم الاكتراث فحسب، بل يتعمد ذلك في محاولة للهرب من المواجهة، خشية تداعياتها. هو الربان نفسه الذي يقفز من السفينة عند أول حادث يعترضها، تاركاً وراءه الركاب يواجهون مصيرهم المحتوم. ولذلك، تكشف الأزمات معادننا.

على الجانب الآخر، قد تُحدِث القيادة الجديدة عاصفة من التغييرات والإجراءات التي لا يدرك البعض «أهميتها» إلا بعد ردح من الزمن. فالتاريخ يقول إن الإصلاحات الإدارية المدروسة والجذرية يجني الناس «ثمارها» بعد أن تنقشع مخاوف التغيير، تصير الرؤية أوضح وأكثر عقلانية، وتصبح صفحات التاريخ أكثر إنصافاً لجهود رجال الدولة من «مانشيتات» الصحف المناهضة للتغيير آنذاك. من بديهيات التغيير أن تعترضه عوائق جمة، الحل في حكمة التعامل معها.

وهناك أمثلة عديدة على الصعيد المؤسسي، ففي قطاع الطيران، حين ألغت بعض الشركات درجة رجال الأعمال لصالح تجربة جديدة، انتُقد القرار لكنه أثبت نجاحه لاحقاً. في الصحة، واجه التحول للملفات الإلكترونية رفضاً، لكنه أصبح معياراً عالمياً يقلل الأخطاء الطبية. في البنوك، اعتُبرت القيود المشددة بعد الأزمات المالية خانقة، لكنها ضمنت الاستقرار المصرفي. في التعليم، أثار التعلم الإلكتروني جدلاً، لكنه تحول إلى ضرورة في الأزمات. في النقل، قوبلت تطبيقات المواصلات الذكية بالتشكيك، لكنها حسّنت الخدمة وخففت الازدحام. في الطاقة، لاقت سياسات الاستدامة معارضة، لكنها خففت الاعتماد على الوقود الأحفوري.

كما حدث في قطاع التجزئة، أن شكك البعض في التسوق الإلكتروني، لكنه تفوق على المتاجر التقليدية. في الإعلام، عُدّ التحول الرقمي تهديداً، لكنه خلق فرصاً جديدة. في الزراعة، واجهت الهندسة الوراثية معارضة، لكنها زادت الإنتاجية. في الصناعة، خشيت المصانع من الأتمتة، لكنها حسّنت الكفاءة وخفضت التكاليف. في القضاء، أثار التحول للمحاكم الرقمية جدلاً، لكنه سرّع البت في القضايا. في الحكومة، عارض البعض الشفافية الرقمية، لكنها عززت المساءلة. كل هذه الإصلاحات، رغم المقاومة الأولية، أثبتت نجاحها لاحقاً، مؤكدين أن الحكم العادل على التغيير لا يكون في لحظة حدوثه، بل بعد أن تنكشف آثاره الحقيقية.

وعلى الصعيد الفردي، فإنه مع ظهور القيادة الجديدة يبزغ نجم مجموعات كانت مهمشة. بعضهم يتحلى بالتفاني بينما لا يتقن آخرون سوى حفلات التطبيل. وما إن يسقط حامل لوائهم حتى يتخلوا عنه ليتجهوا نحو قائد جديد، في رحلة انتهازية مقيتة.

ولذلك، كان البحث عن الأكفاء مسألة في غاية الأهمية فبسواعد هؤلاء تُبنى الأوطان والمؤسسات. من مرارة التعامل مع الأكفاء أنهم لا يجاملون، فهم يقولون ما تُملي عليهم ضمائرهم وخبرتهم وعلمهم، وهذا بالضبط من يحتاجه كل من يتبوأ منصباً رفيعاً.

تحمل كثير من القيادات الجديدة، أجندات وأولويات مختلفة. ولذلك كان من الطبيعي أن تحيط نفسها بثلة ممن يؤمنون بها ويعملون جاهدين لتحقيق رؤيتها.

وتتجلى القيادة الحقيقية في القدرة على إحداث تغيير إيجابي ومستدام على الصعيد المؤسسي والفردي. وعندما تكون القيادة مرتبطة بهمة أفراد زائلين لا يُرجى من ورائها استدامة.