ارتبط تاريخ دول الخليج العربية ارتباطاً وثيقاً بالبحر والملاحة والتجارة البحرية والغوص على اللؤلؤ منذ أقدم الأزمنة.
وعلى هامش هذا الارتباط ازدحمت أدبياتها بأسماء رجالات خاضوا غمار البحار والمحيطات بشجاعة نادرة وصولاً إلى موانئ الدنيا المزدهرة في زمنهم، غير مكترثين بالأهوال والعواصف والرياح العاتية وأسماك القرش، فأثروا في حياة أوطانهم وأسهموا بشكل أو بآخر في اقتصادها زمن ما قبل اكتشاف النفط وتصديره، وبقيت ذكرياتهم وحكايات معاناتهم وظروفهم المعيشية الصعبة وتجاربهم الإنسانية نبراساً للأجيال الجديدة ومصدر تثقيف لهم عن زمن لم يعيشوا صعابه وحياة لم يذوقوا مرارتها وتجارب لم يمروا بها.
ومن حسن الحظ أن بلداننا الخليجية اهتمت مؤخراً بتوثيق سير هؤلاء الرجال من خلال عمل مؤسسي يرتكز على الرصد الدقيق للذاكرة الشعبية والروايات الشفهية وأحاديث المجالس الشعبية، ويهدف إلى الحفاظ على تاريخ عبق جدير بالمفاخرة به بين الأمم.
الأسماء، بطبيعة الحال، كثيرة وتشمل نواخذة من كل أقطار الخليج دون استثناء، لكن حديثنا هنا يقتصر على نوخذة إماراتي عاصر مجمل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها بلاده والمنطقة، كونه عاش ما يزيد على التسعين عاماً، ناهيك عن احتفاظه بذاكرة حديدية منظمة عن رحلاته البحرية إلى موانئ الخليج وشبه القارة الهندية وشرق أفريقيا، وما صادفه فيها من متاعب ومنغصات، وما استفاده منها معيشياً وثقافياً.
فلا عجب بعد ذلك لو وصفته «البيان» (28/2/2008) بـ«قاهر البحار والمحيطات، وصاحب التجربة الفريدة والثرية في عالم الأسفار والترحال»، قائلة عنه: «ستون عاماً في ركوب البحر طبعت تضاريسها على وجهه الباسم، تاركة أمواجاً من الذكريات تجري على لسانه وكأنه يروي حكايات من ألف ليلة وليلة، فيما عيناه تلامس صفحة الماء بنظرات كلها حنين وولاء لرفيق مسيرته ومصدر رزقه.. ألا وهو البحر».
نعتمد في رواية سيرة النوخذة الراحل «خليفة بن محمد الفقاعي» على ثلاثة مصادر رئيسية مكتوبة من الصحافة الإماراتية، ونطعمها بمعلومات جمعناها من مصادر شفهية.
ولد الفقاعي في حدود عام 1921 بمنطقة الراس في دبي، لكنه انتقل وهو طفل رضيع مع والديه وجدته إلى إمارة رأس الخيمة، حيث ترعرع ونشأ وسط ظروف غاية في الصعوبة، وحيث تفتحت عيناه على الدنيا والتحق بكتاب مطوعة تدعى مريم لحفظ القرآن.
يقول الفقاعي عن هذه الفترة المبكرة من حياته إنه لم يفلح في الدراسة ولم يواظب على الذهاب إلى الكتاب، وكان همه البحث عن عمل يؤمن له المعيشة كغيره من مجايليه، فلم يعثر إلا على وظيفة «صباب قهوة» فوق ظهور السفن التجارية.
وهكذا ركب البحر لأول مرة في سن العاشرة إلى ميناءي «بندر عباس» و«ميناو» على ظهر سفينة الشحن «ياسر» العائدة ملكيتها إلى جارهم «إبراهيم محمد السامان»، حيث مارس وظيفته المذكورة إلى جانب بعض الأعمال الخفيفة.
ظل صاحبنا يعمل مع السامان لمدة عامين تعلم خلالهما بالمراقبة والمحاكاة الكثير من الأعمال المرتبطة بالرحلات البحرية مثل قيادة السفينة وتنزيل وطي الشراع وتحميل البضائع وقياس اتجاهات الريح وكيفية التعامل مع الأمواج العاتية وغيرها، ما جعله لاحقاً من نواخذة الإمارات المعروفين بحب البحر وارتياده، رغم أن أسرته من البادية، ووالده لم يعمل قط في البحر، بينما أخواله هم الذين أورثوه عشق البحر.
من عمله هذا انتقل إلى وظيفة «محصل إيجارات» مقابل خمس روبيات شهرياً، لدى الشيخ محمد بن سالم القاسمي، الذي يبدو أنه أعجب باستقامة وصدق وطموح الصبي خليفة الفقاعي، فأرسله بمعية «عيسى قرقوز» إلى الهند لاستيراد سلع أخرى من هناك إلى رأس الخيمة، فكانت تلك الرحلة التي بدأها من الشارقة إلى بومباي هي رحلته الأولى إلى عالم المدهشات ومياه المحيطات المترامية.
يخبرنا الفقاعي في أحاديثه الصحفية أن رحلته البحرية التالية كانت إلى ميناء عدن عام 1941، وقام بها وحده دون مرافق.. لجلب سلع إلى رأس الخيمة.
فبعد أن عقد صفقة في عدن بواسطة سمسار صومالي، وأتم شحنها على ظهر سفينة غير سفينته كي تسبقه إلى الإمارات، أبلغ السمسار السلطات البريطانية بالخبر كي يحصل منها على مكافأة مقررة، فقام الانجليز بالقبض على الفقاعي والتحقيق معه حول أسباب تواجده في عدن وخلاف ذلك، فبررها الرجل بالتجارة ودلهم على سفينته المنتظرة على الميناء والخالية من أي سلع غير قانونية.
وهكذا قيض له أن ينجو من عقوبة شديدة بعد أن أمضى 12 يوماً في المعتقل، وخرج بمساعدة تاجر حلوى من عمان اسمه «علي العودني».
ويبدو أن الفقاعي ادخر من المال وقتذاك ما يكفيه للانطلاق في أعمال لحسابه الخاص، فاشترى، بمشاركة رجل من أهل فارس يدعى «محمد رسول»، سفينة شراعية صغيرة أطلق عليها اسم «فتح الخير»، وأخذ يتنقل بها بين الإمارات وبلدان الخليج المجاورة، مزاولاً بواسطتها التجارة.
وبحسب كلامه: «أذكر أن البداية اقتصرت على السفر إلى الشارقة ودبي وأبوظبي بغرض تجارة الحطب والعسل والرطب والتمر، وكنا نحمل من دبي إلى رأس الخيمة السكر والقهوة والعيش (الأرز) وأشياء أخرى نحتاجها في المعيشة اليومية».
وما أنْ ادخر مبالغ أخرى، حتى سارع إلى تملك سفينة أكبر حجماً بحمولة 200 طن سماها «المرسال» اشتراها من الكويتي حسن بوعساف كي يسافر بها إلى موانئ أبعد في عمان وشبه القارة الهندية والمحيط الهادئ.
وكانت أولى هذه الرحلات السفر مع «إبراهيم محمد النواخذة» إلى الهند لشراء الأقمشة، حيث ظلا هناك سنتين جمع خلالهما صاحبنا ألفي روبية دفعها ثمناً لنصف قيمة سفينة شراعية اشتراها من الشيخ سلطان بن أحمد المرزوقي حاكم مغوه، ثم سدد ثمن النصف الثاني لاحقاً.
روى الفقاعي ما حدث له عام 1951، حينما كان في حاجة إلى المال، وعرض عليه سمسار هندي صديق إيصال شحنة من التمور تزن 100 طن من مسقط إلى نكوما في المحيط الهادئ مقابل 7000 روبية، فقبل تحت إغراء المبلغ الكبير، ونجح في إيصال الشحنة دون مشاكل من بعد رحلة استغرقت نحو 73 يوماً، ومن هناك حمل شحنة سكر إلى مومباسا، فتضاعفت حصيلته من الأرباح.
كما روى قصة أخرى مشابهة حينما توجه بشحنة تمور من العراق إلى زنجبار برفقة نوخذة الشارقة المعروف راشد بن جروان، فعرض عليهم في زنجبار عملية نقل شحنة أخشاب إلى الهند عبر منطقة وعرة، الأمر الذي استلزم الحصول أولاً على تصريح خاص من السلطات البريطانية.
روى الفقاعي تفاصيل هذه الرحلة التي تعكس مدى حرفية أبناء الخليج في تسيير المراكب وقيادتها فقال ما مفاده إنه كان في سنة 1956 في رحلة إلى زنجبار، وكان السفر منها يستدعي المرور بمنطقة وعرة تدعى «سيبورانغا» التي قرر الانجليز عدم السماح باجتيازها إلا بعد مثول نواخذة السفن أمام ضابط بريطاني.
يضيف: دخلت على الضابط مع صديقي، ولم أكن أعرف القراءة أو الكتابة، فسألنا عن طريق مترجم يدعى الشيخ عمر عن كيفية وصولنا إلى هناك، فأجبناه عن طريق رأس الخيمة والبصرة ونريد الآن العودة عن طريق سيبورانغا، ثم سألنا عن المعدات البحرية التي نحملها، فقلت له إننا لا نعرف حتى القراءة والكتابة، فتعجب وقال: كيف تسافرون هذه المسافات الطويلة دون أدوات لقياس أعماق البحر وغيره، فقلت: إننا لا نملك شيئاً منها ونعتمد على خبرتنا فقط، فزاد تعجبه وقال: «ضابط البحرية عندنا يدرس في الكلية خمس سنوات، وفي الليل يوقف سفينته على الشاطئ وأنتم العرب تدخلون البحر وكأنه بيتكم».
ومن المفارقات التي حدثت له خلال مغامراته البحرية أنه وصل ذات مرة إلى ميناء مقديشو الصومالي من بعد رحلة شاقة، فوجد جموعاً من المواطنين متجمهرين على الشاطئ في حالة حزن وترقب لأن مواطنيهم خرجوا إلى البحر ولم يعودوا منذ أيام.
يقول الفقاعي: «كان من بين المتجمهرين رئيس البلاد الجنرال محمد سياد بري الذي طلب مني أن أستخدم سفينتي في البحث عنهم، فخرجت في رحلة بحث استغرقت يومين، ووجدت أن سفينتهم قد انكسر مقودها وأن اثنين منهم قد ماتا، وقمت بنقلهم إلى الشاطئ، واستقبلني سياد بري وعرض علي مكافأة مالية فرفضتها قائلاً إن أخلاق البحار تمنعني من أخذ مقابل لعمل إنساني، فما كان منه إلا أن أخذ رشاشاً من أحد جنوده وأعطاها لي فقبلت، وما زلت أحتفظ بهذا الرشاش إلى جانب بندقية آلية أهداها لي الشيخ ناصر بالأسد من مشايخ المهرة مقابل إنقاذي لسفينته ورجاله من الغرق عام 1956 قبالة سواحل الصومال».
إن ذلك الصبي الأمي الفقير الذي بدأ حياته «صباباً للقهوة» على ظهور السفن التجارية، استطاع بفطنته وذكائه وصبره وشغفه بالبحر أن يتعلم ممن رافقهم من نواخذة كبار قواعد وفنون الملاحة والتجارة البحرية وخرائطها، ثم نجح بتملك السفن والطواف بها على المؤانئ القريبة والبعيدة.
وبعد أن اشتد عوده وجمع المال الحلال، وتثقف ذاتياً من خلال الاختلاط بالأقوام والشعوب، والتعرف على عاداتهم وتقاليدهم، والسياحة في بلدانهم، وتعلم لغاتهم، قرر الانتقال للهند للإقامة والعمل، حيث تملك البيوت وأقام سنوات طويلة كأحد أعيان الخليج ممن اختاروا العمل في قطاع صناعة السفن.
دعونا نقرأ ما قاله بالسياق (بتصرف): «في الهند أنشأت مصنعاً لصناعة السفن، واختياري للهند مقراً للمصنع يعود إلى وجود العمالة الماهرة الرخيصة، وتوفر الخامات المناسبة كالأخشاب، علاوة على معرفتي بالبلاد لأنني أقمت بها طويلاً وتملكت فيها منزلاً وشهدتْ أرضها الكثير من ذكرياتي في الأيام الخوالي». ولئن كان الفقاعي قد انخرط في البحر والصيد والتجارة وصناعة السفن، إلا أنه انخرط أيضاً في الزراعة.
إذ قرر في منتصف الثلاثينات أن يترك أعمال البحر فجأة ويشتري أرضاً ليشجرها بالنخيل ويزرعها بالخضروات والتبغ، لكنه بعد 3 سنوات فقط عاد إلى معانقة البحر. وكعادة الرعيل الخليجي الأول ممن احتضنتهم الهند قديماً للعمل أو الإقامة أو الدراسة أو التجارة، فعشقوها وامتزجوا بأهلها وتشبعوا بثقافتها، ثم ردوا الجميل لها من خلال بناء المدارس والمساجد، فإن خليفة الفقاعي بنى أيضاً في الهند العديد من المساجد لوجه الله وأنفق على الفقراء والمحتاجين وتبرع لتعليمهم وإيوائهم.
يقول الفقاعي إنه تعلم من البحر الصبر وتحمل الشدائد لفترات طويلة دون تناول الطعام والاكتفاء بالتمر والماء، كما تعلم كيفية مواجهة الحالات الطارئة والتصرف مع الرياح والأعاصير وموجات المد العاتية، وكيفية مد يد العون للسفن والمراكب الأخرى المستغيثة، خصوصاً وأنه تعرض شخصياً أكثر من مرة للحظات كان الموت فيها قريباً منه لولا عناية الله ولطفه، ومعظمها بسبب انقلاب سفينته بحمولتها جراء الرياح القوية.
وعلى الرغم من كل هذه الأهوال التي صادفها، وعلى الرغم من إقراره بأن البحر غدار ولا أمان له، وركوبه متعب وشاق ومحفوف بالمخاطر، إلا أن الفقاعي تربطه بالبحر علاقة عشق وحنين.
في 16 أكتوبر 2014 ودع الفقاعي الدنيا، تاركاً خلفه 15 من الأبناء، تسعة منهم من الذكور (علي وعبدالله وإبراهيم ويوسف وجمعة وعمر وحسن وأحمد وسعيد)، لم يدخل البحر معه منهم إلا أكبرهم «علي»، بينما اتجه الآخرون إلى تخصصات أخرى، وأنجبوا الأحفاد الذين يعملون اليوم في دوائر الدولة المدنية والعسكرية.