حين تعيق الوسائل تحقيق الأهداف

كان الاعتقاد السائد أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «يغامر بإلقاء مقترحات غير واقعية، مثل شراء غرينلاند، واحتلال قناة بنما، وتهجير قرابة المليوني فلسطيني خارج قطاع غزّة، وإطلاقه لحرب تجارية مع أوروبا والصين، وتهميشه للقانون والمؤسسات الدولييْن، كلّ ذلك كان في تقدير المتابعين للشأن الأمريكي، من أجل «تحويل الأنظار عمّا يجري في الداخل الأمريكي من تفكيك منهجي وسريع للحكومة وأجهزة الاستخبارات الأمريكية».

وبدا أنّ هذا يدخل في إطار سياسة ترامب الاتصالية، وإغراق المشهدين السياسي والإعلامي بإعلانات وأفكار مثيرة للجدل، ومسيلة للكثير من الحبر، وهو على درجة كبيرة من الصواب، على الأقلّ، لجهة ما يحدث من تطوّرات كبيرة داخل الولايات المتحدة، وهي متغيّرات تثبت، بلا شكّ، أنّ دونالد ترامب وفريقه يسيران وفق خطّة هدفها الأساسي، إحداث تحوّلات جذرية في المنظومة السياسية الأمريكية، بما يقطع مع التقاليد السياسية العريقة في الولايات المتّحدة.

ومعلوم أنّ أهمّ ركائز المنظومة السياسية في الولايات المتّحدة، هي ثلاث، بدءاً بالطبيعة الفدرالية للدولة، التي تحافظ على هامش صلاحيات كبير للولايات، وثانياً، الفصل الصارم بين السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية، وثالثاً، مَحْوَرَةُ الحياة السياسية حول حزبين كبيرين (الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي)، بما يسهّل التداول السلمي على الحُكْمِ، وفق نظام انتخابي معقّد ومركّب، ورابعاً، تأمين هيمنة الولايات المتحدة على العالم.

وعلى مدى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، تمكّن هذا النظام السياسي من تحقيق قدر كبير من الاستقرار والتوازن في العلاقات داخل أمريكا، ومع الدول الأخرى، نظراً للدور المحوري للولايات المتحدة الأمريكية في منظومة العلاقات الدولية.

وقد تكون المدّة قصيرة نسبياً، لتقييم شامل لتجربة ترامب الجديدة في الحُكْمِ، ولكن، عديدة هي المؤشّرات الدالّة على وجود تململ في الداخل الأمريكي، الذي بدأ يخشى بجدّ حدوث «انحراف فرداني، وحتّى استبدادي، بالسلطة»، كما عبّر عن ذلك سيناتور ديمقراطي.

والشيء ذاته بخصوص علاقة الولايات المتّحدة بالعالم الخارجي، وهي علاقة عرفت تشويشاً مثيراً، وفقدت على الأرجح بوصلتها، وأربكت تحالفات واشنطن التقليدية، ودفعت الأوروبيين وبريطانيا وكندا، وهم أكبر حلفائها، إلى التهيُّؤ للأسوأ، والتفكير والتخطيط لعدم التعويل عليها مستقبلاً، وخصوصاً في مسائل الدفاع والأمن.

وإذْ يكون الاقتناع حاصلاً بأنّ عراقة المنظومة السياسية الديمقراطية الأمريكية، من شأنها الحيلولة دون ترامب وتحقيق أهدافه في التغيير الجذري للمنظومة السياسية، فإنّ تداعيات سياسة الرئيس الأمريكي الخارجية، قد تكون غير قابلة للتدارك، وبخاصّة في علاقة ببعض القضايا الهامّة، كالوضع في الشرق الأوسط ومصير الشعب الفلسطيني، وكذلك مستقبل العلاقات بين الولايات المتّحدة وحلفائها الأوروبيين، وكندا.

ويبدو أنّ أهداف ترامب الداخلية والخارجية على طابعها الصادم، لقيت في بداياتها بعض الصدى الإيجابي، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، ولكنّ حدّة الخطاب والوسائل المعتمدة، ومنطق «العنف» الذي طبع سلوكيات سكّان البيت الأبيض الجدد، قد يكون وراء التراجع الكبير في نجاحها.

ويعوّل دونالد ترامب لتحقيق أهداف الداخل على انتعاشة قصوى للاستثمار والاقتصاد، وتحقيق الشروط الأساسية لرفاهية المجتمع، ويراهن لتحقيق أهدافه الخارجية على إحداث تغييرات عميقة في مشهد العلاقات الدولية، بدءاً بإعادة ترتيب مشهد التحالفات الدولية، ووصولاً إلى تعميم نموذج الحُكْمِ الليبرالي الوطني والقومي، وذلك بتشجيع أحزاب اليمين واليمين المتطرّف داخل الدول، وهي سياسة لم يثبت جدواها على الأقلّ في كندا، حيث تراجع التأييد لحزب الشعب اليميني، من 30 في المئة قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض الأمريكي، إلى 2 في المئة فقط بعد شهرين من ذلك.

إنّ الوسائل المعتمدة غالباً ما تحدّد نسبة تحقيق الأهداف، خصوصاً في عالم يعيش مرحلة مخاض كبير، ويتّجه تدريجياً إلى القطع النهائي مع نظام القطب الواحد، عالم عمّت فيه المطالبات برفع المظالم عن الشعوب والأمم، وتتطلّع فيه البشرية إلى الاحتكام إلى قانون دولي يسمو عن سياسة تعدّد المكاييل، ويصان فيه العمل الإنساني المشترك، ليكون إذن من الصعب، وربّما من المستحيل، على ترامب أو غيره، فرض إرادته على الجميع.