بين سيف زياد ولسان معاوية!

شكا رجل إلى طبيب وجعاً في بطنه، فقال الطبيب: ما الذي أكلت؟ قال: أكلتُ رغيفاً محترقاً، فدعا الطبيب بِكُحْل ليُكَحِّل المريض، فقال المريض: إنّما أشتكي وجعاً في بطني لا في عيني، فرد عليه الطبيب: أعلم ذلك، ولكن أكحّلك لتبصر المحترق، فلا تأكله!

وجود المنغّصات في الدنيا أمر لا مفرّ منه، ولكن بعض هذه المنغصات مفتعلة، ويمكن تلافيها، وإن حدثت يمكن إيقافها أو تخفيف ضررها للحد الأدنى، ولكن إذا تُرِكَت حتى تستفحل وتترسخ، فحينها يكون إيقافها صعباً للغاية، والتخلّص من تَبعاتها اللاحقة ضربٌ أقرب إلى المحال، لذلك يجدر بالعقلاء المتنفّذين أن يتدخّلوا سريعاً لوأد الخلل في مهده، قبل أن يصبح عصيّاً على الإصلاح، وتضيع الأعمار في سد الفجوات التي يخلقها هذا الخلل دون توقف!

يروى أنّ رجلاً جميل المنظر، أنيق الهندام، وقف أمام شيخٍ حكيم، وهو يتباهى بلباسه، ويفاخر بمنظره، فقال له الحكيم: «تكلّم حتى أراك»، فالإنسان يُعرَف من حديثه، ويُحكَم على خُلُقه من اختياره لألفاظه، فالخيّر لا يُسمَع منه إلا خير الكلام، والسيئ لا يُسمَع منه إلا السيئ، لكن البلاء عندما تختلط المفاهيم وتتداخل، فيظن البعض أنه يمكن أن ندافع عن الخير بالقول السيئ، أو أن القدح في الآخر المسيء لنا، قد يعود لنا بخير، ويردع ذاك عن فعله فلا يعود إليه!

إن من يرى تلك المعارك الطاحنة على منصات التواصل، و«إكس» تحديداً، بين العرب، ليندى جبينه حياءً مما يقرأ، ويضرب أخماساً بأسداس، وهو يرى كيف تُهاجَم الرموز، ويُشتَم الأموات، ويُوقَع في الأعراض، بدعوى الدفاع عن الأوطان، أمرٌ تُرِكَ دون تدخّل، حتى خرج عن السيطرة، وعن الذوق وعن الأدب، وعن أخلاق العرب والمسلمين، وإن تجرأت ودخلت في «السكّة» لتهدئة النفوس، ونُصح المشاركين في هذه المعارك التي لا منتصِر بها، سينقلب عليك بعضهم، وهم يهاجمونك بردودهم المكررة: «وينك لما كانوا يسبونا؟»، «ليش ما احترق دمك وهم سبوا فلان وفلان»، «إذا تستحي تدافع عن بلادك لا تمنعنا ونحن نعمل اللي ما قدرت عليه»، «خلهم يوقفون بعدين بنوقف»، وأمثالها من الردود التهييجية والتأليبية، لتجد نفسك تنسحب قبل أن توصَم بالخيانة العظمى عند حملة صكوك الوطنية!

ما الذي يجري؟ من أي مدخل شيطاني خرجت لنا هذه المعارك؟ الأمر ليس حكراً علينا في الخليج، ترى ذاك الصراع والمناكفة بين مغردي أغلب الدول العربية، والهدف دوماً هو الشعب الملاصق لك، ومن لم يجد شيئاً من الحاضر يُشَغِّب به، يعود لنبش الأوراق القديمة للغاية، لكي يدخل المعركة بسلاح جديد، يحسده عليه رفاقه، ثم يشاركونه في حمله ومحاسبة الحاضر بإرث قديمٍ، لا ناقة للموجودين فيه ولا جمل، وحيثما قرأت ستجد ذات مداخِل السباب لا تتغيّر بين العرب شرقاً وغرباً، وكأن الجميع يقرأ من ذات المقرَّر، الذي لا يزيدهم إلا فُرقةً وضعفاً!

إنّ هذا الأمر لا يمكن أن يكون مصادفة، واستشراء العدوانية بين أغلب الشعوب العربية بهذه الصورة، يستحيل أن يكون أمراً غير مخطط له، إنّ الغرب قد اتفقوا منذ زمن على تبنّي مفهوم «الحرب بالوكالة»، للوصول إلى أهدافهم، ولكنهم معنا يبدو أنّهم عرفوا طريقاً أسهل، وهو التحريش بين الشعوب التي يسهل استفزازها، ولا يتأخر تجييشها ضد بعضها البعض، ولكن يصعب لاحقاً ردم ما حدث بينها من سباب وطعن، وهو مُبتغى من يريد لنا الشر على الدوام!

لا شك أن الوضع قد أصبح مُشيناً للجميع، ولن يوجد به منتصرٌ أبداً إلا أعداء الأُمّة، وإنّ الاكتفاء بدعوات التهدئة وضرورة الالتزام بالأخلاق والأدب في التحاور، لن تُغيّر شيئاً، ومزالق الشتائم تتسع كل يوم، وتبذر للمستقبل كراهية لا تُمحى بين الشعوب المتنافرة، ووَحْدُها العقوبات الرادعة من ستكبح جُماح «محاويث الشر» في كل بلد، ومن الضرورة ألا ننزلق أيضاً لقضية أن تقوم البلدان الأخرى بإجراءات عقابية رادعة هي الأخرى، فهذا الأمر أشبه بالدوران في حلقة لا تتوقف، ولا يأتي من ورائها إلا ترسيخ للوضع القائم ومنتجاته بالغة السوء!

عندما افتخر صاحبٌ لزياد بن أبيه -الذي عُرِف بصرامته وشدته- بزياد أمام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، رد عليه معاوية قائلاً: «أُسْكُتْ! ما أدرك صاحبك شيئاً قطّ بسيفه، إلا وقد أدركتُ أكثر منه بلساني»، فالشدة، سواء بالفعل أو القول، لا يمكنها أن تكسب معركة القلوب، وما لم ننتبه لهذه الجزئية المهمة، وإلا فإننا سنبقى نأكل ذات الرغيف المحترق!