هناك رواية أمريكية للكاتب الأمريكي فيلب روث، عنوانها «المؤامرة ضد أمريكا»، والتي نشرت في 2004. الرواية كتبت بأسلوب التاريخ البديل، أي أن يتخيل الأديب أو المؤرخ حدثاً مغايراً عما حدث، وكيف ستكون الأمور من بعدها. والروائي من أسرة يهودية، عاشت في فترة حرب العالمية الثانية في مدينة نيوآرك، في ولاية نيو جرسي المحاذية لنيويورك.
وتدور السردية عن الأسرة خلال هذه الفترة، مع تحريف تاريخي واحد، وهو خسارة الرئيس فرانكلين روزفلت للانتخابات في عام 1940، لخصمه الطيار الشعبي المتعاطف مع النازية، تشارلز ليندربرغ، والمتحدث باسم «لجنة أمريكا أولاً».
والتي تروج لنأي الولايات المتحدة عن الحرب الدائرة حينها في أوروبا. ويتخيل الكاتب حالة أسرته، واليهود عموماً، في ظل حالة معاداة السامية، والتي تتغاضى عنها الإدارة، بل في حالات تشجعها.
الرواية تتحدث عن إمكانية تراجع الليبرالية حتى في الولايات المتحدة، رغم أن نهوضها من جديد في الرواية، بإعادة انتخاب الرئيس روزفلت، دليل على تفاؤل حقيقي في المذهب الليبرالي. ولكن هناك خاصية تعاني منها الليبرالية، هي أنها غير محدودة.
البنية الداخلية للمعتقد، يسمح للتطور والحرية دون وازع إلا ما يراه الأفراد في عصرهم، ومنها انتخاب شخص (في الرواية)، مناهض للمبادئ الليبرالية، مثل ليندربرغ.
أمريكا فكرياً قائمة على الليبرالية، بغض النظر عن الانتماء إلى أي من الحزبين الرئيسين. الليبرالية في السياسة وفي الاقتصاد، بل إن الاثنين مترابطان. الليبرالية في الاقتصاد تعني حرية الحركة للرساميل والبضائع دون عوائق، وأن الدولة عليها تسهيل هذه الحركة.
ومع التطورات الاقتصادية وتعقيداتها، شرعت الدولة بتنظيم التجارة والاستثمار، بغرض حماية النظام الرأسمالي القائم على حرية التملك والتجارة.
الليبرالية السياسية تتماهى مع الليبرالية الاقتصادية، بل إنهما صنوان. الليبرالية السياسية تعتبر المجال العام مثل السوق، كل يعرض بضاعته السياسية، والناخبون هم المستهلكون الذين يبتغون شراء البضائع السياسية، ومن راجت بضاعته السياسية تسيّد المناصب السياسية.
هذه التطورات التاريخية نحو مزيد من الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تفاقمت دون ضوابط. وكثير من المحافظين بدؤوا يقلقون على تمادي الأفراد في ممارسة الحريات، واستحداث أنماط من الممارسات المتعارضة مع القيم الدينية والتقاليد.. وصارت ردة فعل ضد الليبرالية، والجنوح إلى الردة، بسبب جموح الحريات.
واصطف المحافظون والمتدينون وبدؤوا بتنظيم أنفسهم. وتحت عنوان «الأغلبية الأخلاقية»، استطاعوا إيصال الرئيس دونالد ريغان إلى سدة الحكم.. وكان صراعهم يدور حول الإجهاض.
والذي يعتبره المتدينون المسيحون نوعاً من القتل العمد للأجنة.. كما نافحوا عن الصلاة في المدارس العامة، وحرمة قسم الولاء للتلاميذ في المدارس، والذي يعترض عليها بعض الأشخاص.
ولكن لم يكن من بين المحافظين من يعترض على الليبرالية بالمعنى الأصلي في التجارة أو السياسية. ولم يحاول المحافظون تحقيق مآربهم خارج الأطر الدستورية والقانونية. وإلى حد كبير، احترمت كل الأطراف المؤسسات العامة ودورها في المجتمع والحكم والسوق.
ولكن الخرق بين الأطراف بدأ يتسع على الراقع.. ولم تعد هناك مؤسسات تستطيع تجسير الهوة بين المستقطبين سياسياً واجتماعياً، وأصبحت الليبرالية بمفهومها الواسع محل تساؤل.
وكان انتخاب الرئيس الحالي دونالد ترامب لفترتين متفرقتين، مر خلالها أحداث السادس من يناير، والتي كادت أن تصدع المؤسسات السيادية وتقوضها.
النظام الجديد يحاول تغيير المجتمع والدولة بشكل جذري. النظام يرى في الليبرالية وسيلة لانتزاع الوطن من أصحابه (البيض)، بسبب تدفق المهاجرين. ويرى أن النظام السياسي والتعليمي والثقافي، يدفع بانسلاخ الولايات المتحدة عن تقاليدها ودينها المسيحي، بأيديولوجيات غريبة مستوردة.
ويحارب النظام الجديد الجامعات «مهد ومنبع الأفكار الهدامة».. بل إن حرية التعبير والتجمع - أهم القيم الليبرالية التقليدية - مرهون برضاء الإدارة عن هذا التعبير وهذا التجمع. هل أصبح الرئيس ترامب، ليندربرغ العصر، كما جاء في رواية فيلب روث؟.