كما في مختلف المجالات، شهدت البحرين منذ ثلاثينيات القرن العشرين تطورات متلاحقة في مجال الغناء والطرب، قادها أبناؤها ممن تولعوا بالموسيقى وامتلكوا مواهب الأداء والتلحين والتأليف الغنائي.
وقد ساعد في ذلك عوامل عدة؛ منها أولاً موقع البحرين الجغرافي، وحضارتها العريقة، وهما عاملان أسهما في تأثرها وتفاعلها مع فنون المناطق والحضارات المجاورة، ومنها ثانياً استقرار أوضاع البلاد، ومنها ثالثاً ما شهدته من انفتاح ونمو مبكر، ومنها رابعاً طبيعة البحرين الجغرافية متمثلة في السواحل والشواطئ وبساتين النخيل والبراري، الأمر الذي سمح بظهور ألوان متنوعة من الغناء، كأغاني الغوص وأغاني العرضة وأغاني الفلاحة، ومنها خامساً افتتاح الإذاعة، وانتشار دور الطرب الشعبية، وتأسيس الفرق الموسيقية، وظهور استوديوهات تسجيل الأسطوانات. وهكذا، فعلى هامش هذه العوامل مجتمعة بدأت الأصوات الغنائية تظهر جيلاً بعد جيل.
وإذا كان محمد بن فارس آل خليفة وتلميذاه ضاحي بن وليد ومحمد زويد، هم المؤسسون الأوائل لفن الصوت البحريني، وأوائل من فتحوا الباب للغناء والطرب والموسيقى، فإن من جاؤوا بعدهم استطاعوا أن يطوروا الموسيقى البحرينية ويضيفوا إليها ألواناً وأبعاداً جديدة، بفعل ثقافتهم واحتكاكهم وتأثرهم بموسيقى الآخر. وقد تجلى ذلك في ظهور أسماء بحرينية كثيرة، كان لكل واحد منهم ميزة خاصة واجتهاد مشهود وأثر خالد.
فمن بعد عبدالله سالم بوشيخة ورائعته «شبعنا من عناهم وارتوينا»، وعلي خالد ورائعته «تسائلني»، ويوسف فوني في «يا سعدي أنا الليلة»، وعبدالواحد عبدالله في «آه يا زماني»، برز جيل جديد من الفنانين البحرينيين الذين درسوا الموسيقى على أصولها في المعاهد المصرية، وكان أولهم حمد الدوخي، الذي أحدث ضجيجاً بأغنيته الخالدة «وليفك غاب»، وتلاه إبراهيم حبيب، الذي فعل الشيء ذاته في باكورة أعماله «دار الهوى دار»، ثم محمد علي عبدالله بأغنيته الرائعة «كم سنة وشهور».
على أنه لا يمكن، ونحن نتحدث عن الغناء والموسيقى في البحرين، أن نتجاوز العملاق أحمد الجميري، صاحب الحنجرية الذهبية والنغمة الشجية والصوت الفخم والذائقة الموسيقية الرفيعة، الذي يستحق فعلاً لقب «عميد الأغنية الخليجية»، الذي أطلقته عليه صحيفة «البلاد» البحرينية سنة 2024.
ولد أحمد يوسف سعد الجميري سنة 1947 بجزيرة المحرق، ونشأ وترعرع في بيت جده سعد عمران الجميري. وكان من نتائج ميلاده ونشأته في المحرق أن تأثر مبكراً بسماع أغاني محمد بن فارس ومحمد زويد ومجايليهما.
ومن حسن حظه أنه ولد لأب متعلم ومتذوق للشعر كان يعمل وقتذاك لدى شركة بابكو النفطية، فكان لديه مكتبة وجهاز راديو، وهو ما أتاح للجميري منذ صغره القراءة والاستماع لبرامج إذاعتي «القاهرة» و«صوت العرب»، والتأثر بأغاني عمالقة ونجوم الطرب والغناء المصريين.
ومن ناحية أخرى كان في بيتهم جهاز تلفزيون يبث من الظهران باللونين الأبيض والأسود، وهذا بدوره أتاح للجميري فرصة التعرف إلى مظاهر الحياة خارج البحرين من خلال مشاهدة الأفلام المصرية، والتعلق بصوت وأداء نجمه المفضل عبدالحليم حافظ.
يقول الجميري في حوار موسع أجري معه أن والده حينما علم بحبه لقراءة الكتب الشعرية، كان يبقيه إلى جانبه أيام الجمع ويرشده إلى أمهات القصائد لأبي نواس والمتنبي وأحمد شوقي ويفسرها له، ما أسهم في نمو ذائقته الشعرية وقتذاك، وصواب اختياره لكلمات أغانيه فيما بعد.
وهكذا، نراه في مرحلة دراسته المتوسطة بمدرسة الهداية الخليفية يدندن ببعض الأغاني لزملائه الطلبة، الذين أخبروا مدرس الرسم «خميس الشروقي» بذلك، فما كان من الأخير، إلا أن أخذه من يده إلى الفنان عتيق سعيد، الذي كان يقدم من إذاعة البحرين برنامجاً أسبوعياً للأطفال بعنوان «ركن الأشبال» يُجرى فيه اكتشاف المواهب الصغيرة.
قدم الجميري، وكان وقتها قد بلغ الثالثة عشرة من عمره، أغنية «مغرور» لعبدالحليم حافظ، فأرسل المستمعون رسائل الإشادة بصوته وأدائه إلى الإذاعة طالبين منها إشراكه في حلقات أخرى. وبالفعل ظهر الجميري في حلقة أخرى، تصادف تسجيلها مع زيارة الفنان المصري محرم فؤاد للبحرين لأول مرة، حيث نشأ تعارف بينهما، بل قام الجميري بغناء أغنية كان محرم فؤاد قد أعدها وسجلها بصوته خصيصاً لإذاعة البحرين أغنية (يا نسمة الخليج).
ولما سمعها المطرب المصري بصوت الجميري أثنى عليه وشجعه على المواصلة. منذ تلك اللحظة تحمس الجميري وراح يحتك بمواطنيه الفنانين والموسيقيين، خصوصاً أحمد الفردان وعيسى جاسم، حيث كانا وقتذاك (عام 1964) قد انفصلا عن «فرقة أسرة هواة الفن»، (تأسست عام 1956)، وكونا فرقتهما الخاصة تحت اسم «فرقة الأنوار»، التي انضم لها الجميري وعازف الكمان محمد جمال وعبدالعزيز الشروقي وخميس الشروقي.
انتبه أصدقاؤه من أعضاء الفرقة إلى جمال صوته وشغفه بالموسيقى فمنحوه جرعة دعم تجلت في بحثهم عن كلمات وألحان كي يؤديها الجميري كأغنية خاصة به لأول مرة.
وأثمر البحث عن أغنية «أسمر ولقاني» من كلمات الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة وألحان أحمد الفردان وعيسى جاسم، التي غناها الجميري من إذاعة البحرين، وقام أحمد الفردان، كبادرة دعم إضافية، بتسجيلها على أسطوانة لحسابه الخاص في عام 1964.
بعد ذلك تشجع الجميري، وقرر أن تكون أغنيته التالية من ألحانه، فسجل في إذاعة البحرين من ألحانه وكلمات عتيق سعيد أغنية «أضحك على قلب شقى»، وتلتها أغنية «يا مرحبتين كبار» من ألحانه وكلمات حسن كمال.
كل هذه الأحداث في حياة الجميري وقعت وهو طالب في المرحلة الثانوية التي كان صاحبنا يستغل عطلتها الصيفية في العمل، كمعظم مجايليه، من أجل اكتساب بعض النقود لمواجهة مصروفاته الشخصية. فقد عمل مثلاً في إحدى العطلات بجمارك البحرين، حيث كان يزامله في العمل أحد أقاربه من ناحية والدته واسمه إبراهيم المنصوري.
وفي إحدى المرات تفاجأ الجميري بأن قريبه هذا يدرس الموسيقى بالنوتة لدى أحد المدربين، فلازمه وأخذ يتعلم منه التنويت ليطبقها لاحقاً في البيت على آلتي العود والأوكورديون وهو يغني أغاني عبدالحليم حافظ.
وتمر الأيام وينهي الجميري دراسته الثانوية، فيأخذه والده إلى شركة النفط على أمل حصوله على بعثة إلى بريطانيا لدراسة هندسة البترول. فتجرى له الامتحانات اللازمة وينجح فيها، ويُطلب منه إعادة دراسة بعض المواد العلمية في المنهج الثانوي بالإنجليزية لمدة ستة أشهر بقصد إعداده إعداداً جيداً لمواصلة تعليمه الجامعي بنجاح في بريطانيا.
في هذه الأثناء كان شغفه بالفن والموسيقى يلح عليه بالاتجاه نحو صقل مواهبه الفنية بدراسة الموسيقى أكاديمياً، فكان بين نارين، لكنه في نهاية الأمر، قرر أن يفاتح والده بعدم رغبته في دراسة هندسة البترول، وتفضيله السفر إلى مصر لدراسة الموسيقى. وعلى الرغم من رفض والده وقيامه بمحاولات حثيثة لثنيه عما عزم عليه، إلا أن محاولاته باتت بالفشل فاستسلم.
وقتها لم يكن في مقدوره أو مقدور والده تدبير نفقات سفره ودراسته في مصر، فلجأ صاحبنا إلى الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، الذي تكرم بمنحه ابتعاثاً إلى مصر على نفقة الديوان الأميري. وسافر عازف الكمان أحمد جمال إلى القاهرة للحصول على قبول بالمعهد العالي للموسيقى، فحصل على القبول له ولصديقه الجميري.
وهكذا ركب الجميري الطائرة لأول مرة في 10 أكتوبر 1967 إلى مصر ليبدأ مشوار الدراسة الأكاديمية التي استغرقت عشر سنوات بدلاً من 7 سنوات، لأن غياباته المتكررة طوال السنة الدراسية في الكويت من أجل إحياء الحفلات وتسجيل أغانيه هناك بمقابل مادي، كانت سبباً في حرمانه من دخول الامتحانات السنوية 3 مرات.
في عام 1977 أنهى الجميري دراسته في مصر وعاد إلى البحرين، حاملاً معه أفكاراً وأحلاماً كثيرة حول تأسيس فرقة موسيقية بحرينية كبيرة، وتدريس الموهوبين وابتعاثهم، وتوثيق التراث الموسيقي، وغيرها، إلا أن تلك الأحلام لم يتحقق منها سوى تأسيس «فرقة البحرين الموسيقية»، التي ظهرت باقتراح من وزير الإعلام الأسبق محمد المطوع، وبجهود الجميري وصديقه وكيل وزارة الإعلام للثقافة والتراث الأسبق الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم.
يقول الجميري عن تجربته في مصر إنه استفاد كثيراً من دراسته التي علمته تحليل الموسيقى وشروط المقامات، كما استفاد من إقامته هناك في قراءة أمهات الكتب الشعرية، والتعرف إلى أساطين الموسيقى المصرية، والاستمتاع بمباهج مصر الكثيرة والمتنوعة، إلى درجة أنه تزوج منها.
أما عن تجربته في الكويت فأخبرنا أنه راح يتردد عليها بدءاً من أواخر الستينيات لتسجيل أغانيه مع الأشرطة لإهدائها إلى إذاعة البحرين، خصوصاً وأن ذلك أسهم كثيراً في انتشار اسمه وزيادة رصيده الغنائي، حيث سجل هناك أغنية «خضر نشلج» من كلمات عبدالرحمن رفيع في عام 1969، لكنها لم تشتهر إلا بعد أن أداها عام 1974 على المسرح خلال حفل بمناسبة دورة كأس الخليج العربي الثالثة لكرة القدم، نقله تلفزيون الكويت بالألوان لأول مرة، وفي عام 1970 سجل هناك واحدة من أجمل وأرق أغانيه وهي أغنية «يالزينة ذكريني»، من كلمات الشيخ عيسى بن راشد، وهذه لم تشتهر أيضاً إلا بعد أن غناها لاحقاً في حفلات رابطتي طلبة البحرين في الكويت والقاهرة. بعد الكويت راح يسجل أغانيه في القاهرة، خصوصاً بعد أن طلبت منه وزارة الإعلام البحرينية إعداد أغانٍ وطنية وتسجيلها هناك بمناسبة العيد الوطني وعيد الجلوس.
من أغانيه الأخرى الجميلة، «تو النهار»، التي لحنها وغناها خلال يومين من كلمات الأمير محمد العبدالله الفيصل، الذي كتبها خصيصاً للجميري بعد أن تعرف إليه شخصياً في البحرين. وهناك أغنية «هلا باللي لفاني» الجميلة، والتي حسبها الجميري من التراث فغناها، فإذا بها من كلمات البحريني مطر عبدالله، ما تسبب في خلافات ونزاعات تمت تسويتها.
أما رائعته «شويخ من أرض مكناس» من كلمات الشاعر الأندلسي «أبو الحسن الششتري» وألحان خالد الشيخ، فتعد العمل الذي أطلق اسمه في أرجاء الوطن العربي. للجميري بحوث عدة في فن الصوت، وله مشاركات كثيرة في مؤتمرات موسيقية في الكويت والإمارات ومصر.
اشترك مع عدد من الفنانين العرب سنة 1996 في أغنية «الحلم العربي»، كما شارك 26 مغنياً عربياً وأجنبياً في تأدية أغنية «بكره» للموسيقار العالمي «كوينسي جونز»، دعماً لنشر الثقافة والفنون والموسيقى في أوساط الأطفال، وأشرف على إعادة توزيع وتسجيل النشيد الوطني البحريني مع أوركسترا لندن الفلهارمونيك.
وفي فبراير 2020 استضافته إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية في أبوظبي لأداء مجموعة من الموشحات الأندلسية في الأمسية التاسعة من برنامج شاعر المليون.
شغل من 1986 إلى 1991 منصب رئيس مجلس إدارة جمعية البحرين للموسيقى والفنون الشعبية، وتولى ما بين 2000 و2002 وظيفة القائم بأعمال مدير إدارة الثقافة والفنون، وعين منسقاً عاماً لمهرجان البحرين الغنائي حتى 2005، وعمل مستشاراً إعلامياً في وزارة الإعلام من 2003 إلى 2008.
وتم تكريمه في 1998 من قبل رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان بمنحه جائزة الدولة التقديرية للعمل الوطني، وفي 2002 منحه الملك حمد بن عيسى وسام الكفاءة من الدرجة الأولى في مهرجان الوفاء، وكرمته الدكتورة رتيبة الحفني، رئيسة المجمع العربي للموسيقى عام 1999، كما جرى تكريمه في «مهرجان الجنادرية 2001»، وفي مهرجان الفنون الموسيقية بالكويت عام 2011.
يقول الموسيقار المصري القديم كامل الخلعي في كتابه «الموسيقى الشرقي» إن المغني المتمكن هو من كان صوته شجياً، وصورته مقبولة، وكلامه خالياً من عيوب النطق، وقادراً على التحكم في طاقاته الصوتية، وهذا لعمري ينطبق على الجميري، الذي غنى ولحن فأجاد وشنف الآذان وأدهش الجمهور على مدى ستة عقود.