التراث كقوة حيوية لبناء الحضارة

خلال عطلة العيد، استوقفتني تأملات الفيلسوف الصيني ليانغ شومينغ (1893 - 1988)، الذي يرى في كتابه (الثقافات الشرقية والغربية وفلسفاتها، 1921) أن «التراث كائن حيّ يتغذى من التفاعل الحضاري، ويتجدد عبر الحوار بين الثقافات».

في رؤيته المتفردة، يرى «شومينغ» أن التراث طاقة نامية تستجيب للتحديات العالمية، وتدخل في حوار خصب مع حضارات أخرى، كي تصوغ حضارة جديدة، جامعة، أكثر إنسانية، وأكثر تنوعاً. هكذا يتجاوز التراث حدود الجغرافيا والزمان، ويصبح ما يشبه «المادة الحيوية» التي تصوغ العالم الحديث بموازاة ما يقدمه العلم أو الاقتصاد من تطور.

هذه الفكرة، تجعلنا نفكر كيف أن التراث قد اعتُبر دائماً شأناً داخلياً، يُحفظ داخل الثقافة الواحدة، ويُنقل عبر الأجيال بحذر شديد، خشية أن يضيع أو يتشوه. لكن «شومينغ» يدعونا لننظر للتراث من زاوية مختلفة: كطاقة متحركة، تتقاطع مع تيارات فكرية من ثقافات أخرى، فيحدث فيها ما يشبه التحول الكيميائي، لا النسخ، ولا الذوبان، بل التفاعل الخلاق.

فالتراث ــ في هذه الرؤية ــ لا يعيش إلا إن خرج من عزلة الماضي، ودخل في صلب الحاضر. ولا يتطور إلا إن تعرض لتجارب ثقافية أخرى، فيها الغريب والمختلف، وأحياناً حتى المعارض، لكنه في النهاية يخرج منها أكثر قدرة على الحياة، وأوسع أفقاً، حيث يرى ليانغ أن الحضارة تُبنى من خلال تفاعل القيم المحلية مع التحديات العالمية. ويضرب أمثلة عميقة على ذلك من التاريخ الحديث. فحين واجهت الحضارات الشرقية تحديات الاستعمار، أو الحداثة القادمة من الغرب، لم تردّ برفض مطلق، بل دخلت في حالة من «التأمل الذاتي»، أعادت من خلالها قراءة مفاهيمها وقيمها الأساسية.

ينبهنا ليانغ شومينغ إلى خطرين كبيرين يهددان التراث: الجمود والانغلاق، أو الذوبان والضياع. ولكي نُنقذ تراثنا من هذين المصيرين، علينا أن نضعه في قلب حوار عالمي، لا يلغي خصوصيتنا، بل يعيد اكتشافها. فكل حضارة ــ كما يقول ــ تحتاج إلى «الآخر» كي ترى نفسها من جديد. كما تحتاج إلى أن تعترف بأن القيم الأخلاقية ليست حكراً على أمة، بل هي لغة إنسانية مشتركة، تُعبّر عنها الثقافات بطرقها المختلفة.

من هنا، يمكننا أن نفهم التراث الإماراتي الممتد والعريق هو منظومة أخلاقية وفلسفية تعبر عن قيم إنسانية كالعطاء، والكرم، والتسامح، والاحترام. ومن خبراتي في العلوم الاجتماعية فإن هذه القيم، قادرة على محاورة العالم. بل إن دولة الإمارات قدمت نموذجاً على كيف يمكن للقيم المحلية أن تكون أساساً لسياسات عالمية وإنسانية، وإن الحضارة الإماراتية المعاصرة واحدة من النماذج التي تُجسد تفاعل القيم المحلية مع الواقع العالمي من خلال برامج ومبادرات مؤسسية مستدامة. هذا التفاعل لم يتخل أبداً عن الجذور، بل تم توظيفه كركائز لبناء مستقبل مرن وإنساني.

نعم، لقد اختارت دولة الإمارات أن تجعل من التراث الأخلاقي والاجتماعي أساساً تنطلق منه نحو العالم. ولكي نستكمل هذا المسار، فإن تطوير بناء الحضارة الإماراتية يمكن أن يتعزز عبر مجموعة من المسارات العملية والفكرية، منها زيادة البرامج التعليمية التراثية المعاصرة بإعادة إدراج التراث المحلي في مناهج التعليم، كمجال حيوي يُدرس عبر الحوار، ويرتبط بالقضايا المعاصرة، مثل العدالة البيئية والرقمنة والقيم الإنسانية.

وأيضاً اقتراح حاضنات تراثية مبتكرة من خلال إنشاء مراكز بحثية وفنية تجمع بين الحرف التقليدية والتكنولوجيا الحديثة، بحيث يكون التراث جزءاً من الابتكار والإنتاج الاقتصادي الإبداعي، إضافة إلى ذلك أهمية توسيع الشراكات بين المؤسسات الإماراتية والمؤسسات العالمية في مجالات مثل التعليم، والفنون، والعمل الإنساني، بحيث تُصدّر الإمارات قيمها المحلية في إطار من الاحترام المتبادل والتفاعل الحضاري، كذلك ضرورة تعزيز الرواية الوطنية في المحافل الدولية بلغة عصرية، تسلط الضوء على نجاح الإمارات في التوفيق بين الأصالة والتحديث، وتُقدم نموذجاً حضارياً جديداً يُحتذى به، بحيث يصبح التراث طاقة محفزة على إنتاج المعنى، وبناء الإنسان، وصياغة السياسات. فكلما واجهنا تحدياً عالمياً، سيكون بإمكاننا الرجوع إلى جذورنا لنستمد منها الحكمة، وننطلق نحو المستقبل بثقة وهوية.

إن ما يدعونا إليه ليانغ شومينغ، هو أن نفهم تراثنا بشكل أعمق، وأيضاً أن نستخدمه كأداة لبناء حضارة تشاركية، لا تنبذ الاختلاف، ولا تدّعي التفوق، بل تحتفي بالتنوع، وتؤمن بأن التحديات العالمية لا تواجهها حضارة واحدة، بل تَـتَحالف في مواجهتها الحضارات. وهكذا، يصبح التراث مشروعاً مستقبلياً، نعيد من خلاله صياغة الإنسان، ونمنحه أفقاً أوسع، وجذوراً أعمق.