سيدة المستشارية تعود لتقول

لم تشأ المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أن تُكثر من الكلام في عنوان مذكراتها التي صدرت مؤخراً، فاختارت أن يكون العنوان في كلمة واحدة هي: الحرية.

ولا بد أن مذكراتها سوف تحظى بقراءة واسعة، ولا بد أيضاً أنها سوف تحصل على درجة عالية من المتابعة. وكيف لا تحظى بالقراءة ولا تحصل على المتابعة، وقد قضت صاحبتها 16 سنة في دار المستشارية الألمانية، فكانت خلالها محور اهتمام داخل بلادها وخارجها؟

تعود ميركل في المذكرات إلى بداياتها في ألمانيا الشرقية، وقت أن كانت ألمانيا مقسومة إلى ألمانيا شرقية وأخرى غربية. في ذلك الوقت كانت برلين عاصمة لألمانيا الشرقية، وكانت بون عاصمة لألمانيا الغربية، ولكن انهيار سور برلين الذي كان يفصل بينهما في عام 1989 جعلهما ألمانيا واحدة موحدة، وجعل برلين عاصمة للدولة الواحدة الموحدة التي نعرفها منذ انهيار السور.

من بين الغرائب في حياة صاحبة المذكرات أنها درست الفيزياء، وقد كان المعنى في هذه الدراسة أنها كانت تجهز نفسها لتكون عالمة مثلاً، أو لتشتغل بالعلوم عموماً، أو لتكون مسيرتها الوظيفية مع العلم لا مع السياسة.

ولكن انهيار السور في ذلك العام كان أمراً فاصلاً في حياتها، لأنها من بعد ذلك غادرت مجال العلم الذي درسته وأعدت نفسها له، إلى ميدان السياسة الواسع الذي قدمت فيه ما لم يقدمه مستشارون كثيرون سبقوها في الدار.

ولا يزال الذين تابعوا مسيرتها في دار المستشارية يتعجبون، كيف استطاعت امرأة مثلها قادمة من ألمانيا الشرقية، أن تشق طريقها بهذه القوة، وأن تؤسس لنفسها مكانة في القارة الأوروبية، وأن تكون في سنوات حكمها قائدة تقريباً للأوروبيين لا للألمان وحدهم؟

والإجابة عن كل هذه الأسئلة وغيرها تظل في سنوات ألمانيا الشرقية في حياة المستشارة العتيدة، فتلك السنوات هي التي صهرتها، وهي السنوات التي شكلت رؤيتها وعقلها، ثم هي السنوات التي جعلتها تطيل التفكير في شأن الألمانيتين، لا في الشأن الألماني الشرقي بمفرده.

وإذا نسي الأوروبيون كل شيء، فلن ينسوا أن اليورو عندما واجه أزمة شهيرة في 2008، لم يجد عقلاً أوروبياً يتعامل مع أزمته بكفاءة بمثل ما تعاملت معه المستشارة السابقة، وقد كان هذا الأمر هو الذي أفرد لها مساحة من التقدير الأوربي، فعاشت من بعد ذلك إلى أن غادرت في 2021، وكأنها زعيمة غير مُتوجة للقارة الأوربية كلها.

وبعد أزمة اليورو بثماني سنوات كانت على موعد مع قضية اللاجئين الذين فروا إلى بلادها من أماكن الحروب والأزمات في العالم، وقد كان لها موقف معهم لم يقفه سياسي أوروبي سواها، فكانت هي التي فتحت لهم أبواب بلادها، وكانت هي التي تعاملت معهم من زاوية أخلاقية إنسانية، فلم ترد أحداً منهم طرق باب ألمانيا.

هي تذكر ذلك في المذكرات، وتقول إنها أحست بمسؤولية إنسانية أخلاقية تجاههم، وإنها لم تستطع أن تتهرب من هذه المسؤولية.

وقد حدث معها من جانب اللاجئين ما لم يحدث مع سواها من الساسة في القارة العجوز، فأطلق عدد منهم اسمها على مواليدهم، وكأنهم أرادوا أن يردوا لها بعضاً من الجميل الذي بادرت به هي إليهم، أو كأنهم أرادوا أن يبادلوها وداً بود.

أما اختيار كلمة «الحرية» عنواناً للمذكرات، فليس سوى دليل على أن هذه المرأة التي نشأت في ألمانيا الشرقية، حيث لا حرية للفرد من أي نوع، قد أرادت أن ترد الاعتبار لهذه الكلمة، وأن تقول إن الحرية للإنسان كالخبز سواءً بسواء، وإنه قد يحيا بالخبز وحده فلا يموت، ولكنه بالحرية مع الخبز يحيا ويعيش.