الحكاية الشعبية هي كائن حي، يمشي على قدمين، يتنقل بين المجالس والمواسم، يلقي السلام على جيل ويهمس بالأسرار في أذن جيل آخر. الحكاية الشعبية، كباقي عناصر التراث، تحفظ نبض الصحراء وهمس البحر، وتعيد في كل وقت، تشكيل الوعي الجمعي على وقع الحروف المأخوذة من حياة الأسلاف والأجداد الذين سكنوا هذه الأرض الطيبة، فوق هذه الرمال وتحت هذه النجوم.
«الخراريف»، من وجهة نظري، هي النوافذ المفتوحة دوماً على العالم الداخلي للإنسان الإماراتي، تعكس ماضيه وحاضره، أحلامه ومخاوفه، قيمه وتصوراته عن الخير والشر، عن العدل والمصير، عن الأنوثة والذكورة، عن العائلة والانتماء. تُحكى على لسان الجدّات، وتنقش في ذاكرة الطفولة كشفرات سحرية تُضيء اللحظات، وتُلهم السلوك، وتُهذّب الغرائز.
لعلّ اللافت في الحكاية الإماراتية أنها ليست معزولة عن العالم. لقد كانت ولا تزال، جزءاً من تيار سردي عالمي، تتقاطع فيه الحقيقة والتاريخ مع الخرافة مع الأسطورة، وتتماهى بينها الحدود التي لا يمكن رصدها بين الواقعي والخيالي. ففي «أم الدويس» نجد صدى للمرأة الساحرة التي تُغوي ثم تفتك، كما في أساطير الإغريق.
وفي «بابا درياه» نسمع أصوات أعماق البحر التي تسكن الخيال الخليجي. أما في حكايات التحول، حين يصير الأخ غزالاً أو طائراً، فنحن أمام بنية سردية عابرة للثقافات، تلتقي فيها سندريلا المصرية مع «ماخاندل بوم» الألمانية، في مشهد لا يقل سحراً عن تحوّل الأشجار إلى ملاذ، أو العظام إلى موسيقى.
خصوصية الحكاية الإماراتية تنبع من قدرتها على أن تأخذ هذه الرموز العابرة، وتصهرها في بوتقة محلية تعكس نبض البيئة، وصرامة العرف، ودفء العلاقة بين الأخ وأخته، مع الأب والأم وأفراد الأسرة والمجتمع، أو بين الإنسان ومخلوقات الطبيعة التي يحيا فيها.
ففي «أنا أخو الغزلان»، يتحوّل إلى رمز للحماية، للوفاء، للحبّ غير المشروط. ومثلما تضيء هذه الحكايات الجوانب النفسية والأخلاقية للمجتمع، فإنها تقدم ملاحظات اجتماعية دقيقة. فهي تكشف عن تصوراتنا عن السلطة مثلاً، من خلال صورة «الشيخ» الذي يظهر دائماً كمجسّد لفكرة العدل والأمن والحماية والرعاية. وتصير الحكاية أيضاً بشخصياتها المختلفة، فسحة للتأمل في الثنائيات الكبرى: الجمال والقبح، القوة والضعف، الظاهر والباطن، الحقيقة والوهم.
حافظت الحكاية الشعبية الإماراتية على حيويتها، لأنها تختزن بداخلها إيقاع الزمن، وأسلوباً في التفكير، ونسقاً في القيم. تتكرر رموز مثل الرقم سبعة، والشجرة، والغدير، لأنها تشكّل مفاتيح للذاكرة، وأدوات للربط بين الأجيال.
ويكاد لا يخلو نص من عبارة تشير إلى «شجرة الغاف»، أو «ساحر يسكن الجبال»، وهي عناصر تشكّل لغة مشتركة، يفهمها المستمع قبل أن تُقال، وإذا كان الراوي الشعبي قد أدّى دوراً أساسياً في حفظ هذه الذاكرة، فإن الراوية كانت غالباً امرأة.
كانت الجدة، أو الأم، أو الشقيقة الكبرى، التي تروي من القلب لا من الورق، والتي تُضيف من مشاعرها ومن رؤيتها ما يجعل الحكاية تتكيّف مع السامع، وتُلبّي حاجته النفسية والمعرفية. فهي، وإن روت قصة «أم الهيلان» لتخويف الطفل من الخروج ليلاً، كانت تُخفي في السرد وصايا أخلاقية، وتوجيهات غير مباشرة، لا لتفرض سلطة، بل لتؤسّس وعياً.
واليوم، حين نُعيد قراءة وسرد هذه الحكايات وقصّها، نفعل ذلك بدافع الفهم. وكيف صاغ مجتمع الإمارات رموزه ومخاوفه وآماله. كيف واجه الغموض، وخلق أبطاله، وأدرك قيمة اللغة في صنع الواقع. الحكاية هنا هي مرآة نرى فيها كيف بُني هذا المجتمع من الرمل والبحر والحكاية. من الجدّة التي تُحوّل النار إلى مجلس، والليل إلى فضاء للأسئلة الكبيرة.
والحكاية الشعبية لا تكتفي بالسرد، بل تنسج تجربة وجودية. في «خطاف رفاي» أو «بابا درياه»، نُحاور الخوف من المجهول. في «سلامة وبناتها»، نسمع أصداء القوى الكبرى التي لا تُواجه إلا بالفداء. وفي «الفتاة عويش»، نكتشف أن البطلة ليست تلك التي تملك الجمال فقط، بل التي تملك الشجاعة، والقدرة على النجاة.
ولأن الحكاية جزء من مشروع التراث، فهي قابلة للتطور. فكما روى الأجداد «رادوبي» بطريقتهم، يمكننا أن نعيد صياغة «ميّ» بلغة اليوم، أن نقدمها في مسرح، أو ننسجها في رسوم، أو نستثمرها في تربية الجمال، لا لتصبح بضاعة، بل لتبقى تجربة، تحيا وتُحْيي.
الحكاية الشعبية في الإمارات هي تجربة ثقافية وفكرية وروحية متكاملة. هي مختبر للهوية، ومجال لفهم الذات والآخر، وأداة للمقاومة الناعمة في وجه العولمة. وكلما أعدنا قراءتها بعيون اليوم، أدركنا أن ما ظنناه ماضياً، لا يزال يسكن حاضرنا، ويقترح على أحفادنا مستقبلاً أجمل.