التراث والهوية الفردية

عندما يسمع الأشخاص كلمة «تراث» يتبادر إلى أذهانهم صور ومفاهيم متنوعة، وغالباً ما تكون مرتبطة بعناصر مادية وثقافية من الماضي. قد يتصور البعض أن «التراث» يعني أشياء متعلقة بأسلوب حياة تقليدية قديمة أو بممارسات الأجداد.

ويشعر البعض الآخر أن التراث هو مجموعة من الأشياء الثابتة التي يجب احترامها والحفاظ عليها. وقد يتبادر إلى ذهنه أن التراث هو كل ما يميز مجتمعه وثقافته عن المجتمعات الأخرى، مثل الحصون القديمة، الأسواق التقليدية، الأزياء الوطنية، الأطباق والمأكولات الشعبية، الأغاني والأهازيج وغيرها، وقد يدور في خلده أيضاً أن التراث يمثل قيماً معنوية، مثل الكرم والضيافة، حيث يعكس التراث في نظره الأخلاق والقيم التي تربى عليها، والتي تعلمها، من قصص الأجداد وتجاربهم وما وجده أو بحث عنه في الكتب والمجلات والصور.

أحياناً يرى البعض أن التراث ينتمي إلى زمن بعيد، ولا يمت بصلة وثيقة لحياته الحالية، وقد يشعر ببعد شديد عن التراث، بل يراه غريباً ومستهجناً، خصوصاً إذا كان يعيش في بيئة لم ينشأ فيها على فهم التراث، أو في بيئة معاصرة تتسم بالحداثة، ومنهم من ترتبط كلمة «تراث» عنده تلقائياً بمظاهر سطحية أو مادية فقط، دون الغوص في المعاني الأعمق المتعلقة بتشكيل الهوية الفردية والجماعية.

كم هي النسبة التي يعرف فيها المواطن الإماراتي، صغيراً وكبيراً، أن التراث هو ركن أساسي في هويته الفردية أولاً، ثم هوية المجتمع كله؟ سأحاول أن أكون منصفة وأفترض أن النسبة، حسب بحوثي وكتبي السابقة «مثل كتاب هويتي»، وخبرتي التدريسية لا تتجاوز 50 % لمن يعرفون ذلك، ولكنهم لا يعملون به بشكل كامل، ونسبة 10 % لمن يعرفون ويعلمون ذلك علماً أكيداً، ويسهمون بتطبيقه في حياتهم اليومية!

ستقولون إنني متشائمة. أبداً، فمن منا يعرف أن التراث هو فعلاً نسيج شامل من القيم والعادات والتقاليد والتاريخ، التي تشكل هويته الحالية؟ الهوية الفردية تتبلور من خلال علاقة حيوية متجذرة مع التراث. وقد قال الفيلسوف نوربرت إلياس إن «الهوية الفردية تتشكل من خلال التفاعل المستمر بين الفرد والمجتمع».

وفي هذا الزمن الذي يطغى عليه التواصل الرقمي والعولمة يواجه الفرد الإماراتي تحديات تتعلق بكيفية الحفاظ على هويته الفردية، في ظل التأثيرات الثقافية المتعددة والتطور التكنولوجي الهائل.

وهنا يأتي دور التراث كونه عنصر استقرار وتوازن، فالمواطن الإماراتي يمكنه أن يعيد اكتشاف نفسه من خلال عناصر تراثه الأصيل، والتي بدأ يراها ويسمعها ويشمّها، منذ فتح عينيه لأول مرة، وكانت في جيناته من والديه، واستمرت كـ«ماكينة» حوله وترافقه، في بيته و«فريجه» ومدرسته وإمارته ودولته. هو يكبر وهي ما زالت محتفظة بوهجها وعبقها، فإن أحسن تهذيب هويته من خلالها، بقيم وأخلاق الآباء والأجداد، سيجد هويته الفردية أصيلة بصورة لا يمكن مسحها أو تغييرها أو التأثير عليها.

بالنسبة لمن يعلمون أن التراث يشكل هويتهم الفردية لكنهم لا يركزون في حياتهم على تجذيرها وتأصيلها، فهم يحتفظون بالتقاليد الإماراتية، لكنهم قد يتأثرون بعوامل العولمة، فقد يختار شاب إماراتي، وبدل إقامة حفل زفاف تقليدي، أن يقيم حفل زفافه بلمسات حديثة، مثل تقنيات الإضاءة، والديكور والتصوير والغرافيكس والسوشال ميديا.

والمصيبة أن يقرر مثلاً التخلي عن أداء الرقصات التقليدية مثل «العيالة»، أو بقية مظاهر الزفاف الإماراتي. فكيف ستكون هوية أبنائه فيما بعد؟

لماذا هذا التحذير؟ وفي هذا الوقت بالذات؟ أشير إلى أن عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان وضع إصبعه على الجرح حين قدم مفهوم «الحداثة السائلة»، ووصف المجتمعات المعاصرة بأنها متغيرة باستمرار، ما يؤدي إلى تجديد مستمر للعادات والتقاليد، وأن الهوية الفردية والتراث هما جزء من هذه السيولة.

وأرى أن الأفراد قد ينزلقون لإعادة تشكيل هويتهم بصورة اعتباطية غير منهجية، لدرجة أنهم يفقدونها ضمن سرعة تبخر الحداثة السائلة.

التحذير أننا نذهب طوعاً نحو «حرية الاختيار»، وهذه من الجوانب المهمة التي تميز الهوية الفردية، وتفصلها عن الهوية الجماعية، فماذا لو قرر أكثر من 80 % من الأفراد، بدون رقابة من مؤسسات المجتمع، التخلي عن كثير من الأخلاق والعادات، وساقتهم الحداثة والعولمة والتطور والسرعة إلى النظر إلى التراث كشيء غريب ومستهجن؟ ماذا سيحدث لهويتهم ولهوية المجتمع الإماراتي الجماعية؟

لن أجيب، وسوف أترك الأمر لواضعي السياسات ليبحثوا عن أفضل الحلول، للتأكد من أن كل إماراتي يعرف ويعلم بأن التراث الأصيل هو الذي يشكل هويته، ويصحح مسيرته، ويرفع مكانته ليصبح الإنسان الأفضل في كل شيء.