رحيل «تاتا» عملاق الصناعة وملهم الملايين

في 9 أكتوبر الجاري توفي عملاق الصناعة الهندية «راتان نافال تاتا» الذي ستتذكره الهند طويلاً باعتباره شخصية كان لأعماله الخيرية، ونهجه الشامل في مجال الصناعة والتجارة، وقيادته الأخلاقية، ورؤيته البعيدة، وتعاطفه العميق مع الآخرين، تأثير دائم وإيجابي على ملايين الهنود.

ولا نبالغ لو قلنا إن تأثيره كان ملموساً وذا صدى في الهند أكثر من تأثير كل الأحزاب والساسة الهنود. فقد ساهم في تحويل «مجموعة تاتا» من قوة هندية محلية إلى قوة عالمية عبر الاستحواذ على شركات عالمية مثل شركة الشاي البريطانية (تيتلي) عام 2000 مقابل 271 مليون جنيه استرليني، وشركة جاغوار ولاند روفر البريطانية في 2008 مقابل 2.3 مليار دولار، وشركة دايوو الكورية لتصنيع الشاحنات عام 2004 مقابل 102 مليون دولار، وشركة الصلب الأنجلو هولندية العملاقة (كوروس قروب) عام 2007 مقابل 11.3 مليار دولار.

هذا ناهيك عن قيادته في عام 2008 لمشروع السيارة الأرخص في العالم والمعروفة باسم «نانو تاتا»، والتي حققت للملايين من مواطنيه حلم امتلاك مركبة خاصة، كون سعرها لم يتعد الألفي دولار.

غير أن صيت راتان (اسم علم هندي بمعنى الجوهرة) تاتا لم يتأت من ذلك فقط، وإنما أيضاً من توجيه أرباح مجموعته إلى العمل الخيري وإلى مجالات التعليم والبحث العلمي والرعاية الصحية ومكافحة الأمراض، علاوة على دعم الجامعات والكليات الأجنبية ذات الشهرة في تخريج الكفاءات العلمية مثل جامعة كورنيل الأمريكية التي التحق بها سنة 1955 لدراسة العمارة وتخرج منها عام 1959.

وكذا جامعة هارفارد العريقة، وكلية لندن للاقتصاد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (IMT)، ناهيك عن تخصيصه لملايين الدولارات لابتعاث الشباب إلى جامعات الغرب من أجل اكتساب المعارف والتخصص في العلوم الدقيقة، وذلك بهدف الارتقاء بوطنه.

ولهذا تجد في كبريات الجامعات الغربية قاعات أو مراكز تحمل اسم تاتا، ومنها «مركز تاتا للتكنولوجيا» في معهد IMT المتخصص في تقديم حلول للتحديات التي تواجه المجتمعات الفقيرة لجهة الحصول على الكهرباء والمياه النظيفة والتعليم الجيد.

ولم يكن إنفاق مجموعة تاتا، التي تأسست قبل 156 عاماً على يد جده رائد الأعمال والمشاريع «جامسيتجي تاتا»، على البحث العلمي والمعارف والتعليم غريباً. فالباحث في تاريخ الهند المعاصر سيفاجأ بأن تاتا الجد كان أول الملبين لنداء بطل الاستقلال جواهر لال نهرو،.

حينما دعا كل أثرياء الهند غداة استقلال البلاد سنة 1947 للمساهمة المالية في دعم مشاريع البحث العلمي، إذ سارع الرجل إلى التبرع بنصف ثروته من منطلق واجبه نحو وطنه، ثم من منطلق أن ما يصرفه اليوم على الأبحاث العلمية سيعود على شركاته بالنفع مستقبلاً.

والمعروف أن أعمال عائلة تاتا توسعت كثيراً بعد استقلال الهند، فشملت «تاتا للصلب والفولاذ» التي لعبت دوراً مهماً في بناء الأمة الهندية، و«تاتا للمركبات» التي تنتشر حافلاتها في معظم دول الخليج العربية.

و«تاتا للفنادق» مالكة مجموعة فنادق تاج محل الشهيرة التي افتتحت عام 1903 أول فندق في الهند مزود بالكهرباء بمدينة بومباي، و«تاتا للطيران» التي أسست شركة طيران الهند سنة 1932 (تم تأميمها عام 1953)، و«تاتا لمستحضرات التجميل» التي دشنت العلامة الهندية الشهيرة لاكمي عام 1952.

في أواخر 2012 تقاعد عن العمل بعد أن تدرج في المناصب منذ التحاقه بأعمال العائلة في 1961، موظفاً في «تاتا للصلب» ثم مسؤولاً عن «الشركة الوطنية للاتصالات»، وصولاً إلى رئاسته لمجموعة تاتا سنة 1991 خلفاً لعمه.

وإبان هذه الفترة واجه تحديات جمة، خصوصاً في حقبة ما قبل تحرير الاقتصاد الهندي من النهج الاشتراكي العقيم، لكنه تجاوزها بفضل فكره النير وصبره وتواضعه ودعم مواطنيه وإشادة وسائل الإعلام بأعماله الخيرية الكثيرة ورؤيته القائمة على التجديد والابتكار والتطوير والتخلص من البيروقراطية وتجديد الدماء والتركيز على عولمة أعمال مجموعته، ما جعل إرثه ملهماً للملايين داخل الهند وخارجها.

وراتان تاتا، المولود بمدينة بومباي في 1937 لعائلة بارسية تدين بالزرادشتية، عرف بعطفه على الحيوانات واهتمامه بالرفق بالحيوان، بدليل انسحابه من حفل على شرفه بقصر بكنغهام سنة 2018 بمجرد علمه بمرض كلبه الوفي، ثم بدليل إقدامه على تشييد مستشفى خاص للحيوانات على أحدث طراز في بومباي (تم افتتاحه قبل وفاته بأشهر).

لكنه في المقابل أسس العديد من المستشفيات والمراكز الصحية لتقديم الرعاية الصحية لمواطنيه الهنود، ولا سيما في مجال علاج الأمراض السرطانية.

ونختتم بما قاله بيتر كيسي مؤلف كتاب «قصة تاتا» من أن جوهر فكر ونشاط الراحل هو «ربط الرأسمالية بالعمل الخيري، من خلال ممارسة الأعمال التجارية بطرق تجعل حياة الآخرين أفضل».

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الهندي