نشرت وكالة الأنباء الفرنسية تقريراً عن أحد آخر حرفيي صناعة مزمار القربة الشهير في اسكتلندا. ويحاول «رواري بلاك» في ورشته الواقعة في إدنبرة الحفاظ على ما تبقى من إرث تلك الصناعة، التي ما زالت أصواتها تصدح في العديد من العروض العسكرية حول العالم. لطالما استخدمت تلك الآلة في رفع معنويات الاسكتلنديين في ميادين القتال خلال الحرب العالمية الثانية.
ويبدو أن اندثار صناعة مزمار القربة لا يعد حدثاً معزولاً؛ فهو جزء من موجة أوسع تهدد الحرف اليدوية التقليدية التي تشمل صناعات مثل السجاد اليدوي، والسيوف، والأحذية، والحدادة، والفخار. التغيير سنة الحياة، غير أن اضمحلال تلك الصناعات يلتهم تدريجياً جزءاً كبيراً من التراث الشعبي لكل أمة. في اليابان، يستمر تقدير صناع سيوف الساموراي، رغم قلة استخدامها، كرمز للإتقان والإرث التاريخي. في المغرب، تعد صناعة الزرابي (السجاد التقليدي) جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية، كما هو الحال في إيطاليا، حيث تزدهر صناعة الأحذية والحقائب اليدوية.
الحفاظ على هذه المهن يحفظ التراث ويعزز تنمية السياحة، ويخدم الاستدامة ليس مجرد حنين للماضي؛ بل هو ضرورة تحمي الهوية الثقافية وتعزز عناصر الجذب السياحية والاقتصادية. الحرف اليدوية غالباً ما ترتبط بالاستدامة البيئية، حيث تعتمد على المواد الطبيعية وتستخدم تقنيات تراعي البيئة بشكل كبير. هي ليست فقط جزءاً من التراث، بل يمكن أن تكون مورداً اقتصادياً مهماً إذا تم استثمارها بشكل صحيح.
قبل أيام، رأيت صورة لنحاتي الكويت في إحدى نقاباتهم. معظمهم تجاوزوا منتصف الأربعين وربما الستين عاماً، وهو أمر يظهر الخبرة المتراكمة. غير أن ما أثار انتباهي هو غياب الشباب عن تلك اللقطة، مما يثير قلقاً حول استمرارية هذه الفنون اليدوية الجميلة.
وهي مسألة تحدث في شتى البلدان مع حقبة التغير السريع التي نعيشها وانصراف اهتمامات الناس نحو أمور أخرى.
ولذلك كان من المهم وضع برامج تدريبية وتأهيل مهني في مراكز الشباب الحرفية لتجديد الاهتمام بها والحفاظ عليها من الاندثار. مثل هذه البرامج يمكن أن تساعد في استعادة الاهتمام بتلك المهن والحفاظ عليها. إضافة إلى ذلك، فإن الترويج الثقافي والسياحي للحرف يمكن أن يجذب السياح ويدعم تلك الصناعات التقليدية.
هناك أيضاً إمكانية للاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتسويق المنتجات الحرفية على الإنترنت، مما يتيح لها فرص الوصول إلى أسواق جديدة حول العالم.
في البحرين، على سبيل المثال، رأيت مشروعاً رائداً يدعم الأرامل والأيتام في تصنيع منتجات يدوية رائعة ومبتكرة مثل السجاد والمسابيح والحُلي لتحسين ظروفهم الاقتصادية. هذه المنتجات، التي تصنع بمهارة يدوية فائقة، تنافس في جودتها ما تصنعه الآلات الحديثة. ويطلق على المشروع «نِتاج» التابع للمؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية برعاية كريمة من رئيسها المتميز سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة.
أرى أن مشكلتنا الأساسية تنبع من المدرسة والبيت. فعندما تكون الحرف والفنون الإبداعية مادة ثانوية ولا تعطى اهتماماً يذكر ينشأ المرء على عدم تقديرها. الأسوأ من ذلك، أننا نفقد القدرة على الاستمتاع بجمال ما تصنعه الأيادي الماهرة. مع مرور الوقت، يختفي هذا التقدير ويصبح مجرد ذكرى.
للأسف، هناك من يزدري صاحب الصنعة، مهما كان مبدعاً. وهي ثقافة لا تمت لروح العصر بصلة. هذه العقلية تُفقد أقاليمنا العربية جزءاً كبيراً من هويتها وتراثها وعناصر جذبها. عندما تعتز الأمم بتراثها، يحترمها الآخرون ويصبح مزاراً للقاصي والداني.