التراث والأنثروبولوجيا

تمثل الأنثروبولوجيا، أو علم الإنسان، نافذة فريدة لفهم الثقافات من خلال دراسة الممارسات التراثية والمجتمعية، حيث يعنى هذا العلم بالكشف عن الروابط العميقة بين التراث والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية داخل المجتمع.

هذا النوع من الدراسة يفتح لنا آفاقاً جديدة لفهم الثقافات، ليس من خلال الأحداث التاريخية البارزة، بل من خلال العادات والتقاليد اليومية التي تُشكل البنية الاجتماعية وتُسهم في تشكيل الهوية الثقافية الجمعية والفردية. وحسب خبرتي الطويلة في علم الاجتماع، فقد وجدت أن هذا العلم يوفر أدوات تحليلية تُمكننا من فهم أعمق للثقافة والهوية الإماراتية من خلال التراث.

في الأنثروبولوجيا، يُعد التراث أداة أساسية لفهم ثقافة المجتمع وطريقة تفاعله مع عناصر محيطه. وفي هذا السياق، يوضح «كلود ليفي-ستروس»، الفيلسوف الفرنسي، أن التراث لا يمثل مجرد إرث مادي أو ممارسات موروثة؛ بل هو نظام معقد يُنظم العلاقات داخل المجتمع، ويحدد الدور الاجتماعي لكل فرد ضمن سياق اجتماعي محدد.

على سبيل المثال، يمكن اعتبار تقاليد الكرم والضيافة الإماراتية مثالاً واضحاً على كيفية تأثير التراث في بناء العلاقات الاجتماعية، حيث تلعب هذه العادات دوراً في تعزيز القيم الأخلاقية والمسؤوليات المشتركة بين الأفراد. هذه الممارسات التقليدية هي قواعد تنظيمية تُرسخ من خلالها علاقة الفرد بالآخرين، وتحدد آلية التعامل في مناسبات متعددة. هذا يجعل من الأنثروبولوجيا أداة قوية لفهم الثقافة من منظور الروابط الإنسانية التي يتم تعزيزها من خلال هذه العادات.

خلال دراسة الطقوس الإماراتية التقليدية مثلاً قد يتاح لنا فهم كيف أن الثقافة تتجلى وتنعكس في ممارسات تبدو بسيطة في ظاهرها ولكنها تحمل دلالات عميقة عن القيم والمعتقدات المجتمعية. فالعادات والتقاليد والطقوس المتعلقة بالزواج، على سبيل المثال، تعبر عن الالتزام العائلي والتواصل بين الأجيال الإماراتية.

بل تسهم في ترسيخ التواصل بين الماضي والحاضر، وتأكيد الروابط الاجتماعية في وقت متجدد. ولذلك نجد أن عالم الأنثروبولوجيا «فيكتور تيرنر» يُعرّف الطقوس بأنها أكثر من مجرد مظاهر خارجية، بل هي وسائل تخلق الروابط وتعزز الهوية الجماعية، وهو ما ينطبق بشكل كبير على العادات والطقوس التراثية الإماراتية التي تعزز من الوحدة الاجتماعية وتربط الأجيال الجديدة بجذورها ربطاً محكماً.

الأنثروبولوجيا لا تقتصر على دراسة التراث الثقافي من حيث الممارسات اليومية والعادات الاجتماعية والتقاليد والطقوس فقط، بل تشمل أيضاً العادات الاقتصادية المرتبطة بالتراث، وهو ما يدرسه مجال الأنثروبولوجيا الاقتصادية.

ومن هنا يرى «مارشال سالينز»، وهو أحد أبرز رواد الأنثروبولوجيا الاقتصادية، «أن النشاط الاقتصادي التقليدي غالباً ما يرتبط بالعادات الموروثة، ما يُضفي على العلاقات الاقتصادية طابعاً تراثياً يجعلها جزءاً من التراث الثقافي».

وفي المجتمع الإماراتي، نجد أن الحرف التقليدية مثل صناعة السفن والأعمال البحرية تُعد ممارسات تراثية تحمل بُعداً اقتصادياً. هذه الحرف تعتمد على مهارات وتقاليد تتوارثها الأجيال، وهي تُسهم بشكل ملحوظ في تعزيز الاقتصاد الشخصي للحرفيين وأيضاً الاقتصاد الوطني.

يتجلى هذا بوضوح في الأسواق التراثية التي تجمع بين التراث والنشاط الاقتصادي، ما يظهر كيف يمكن للتراث أن يكون مصدراً اقتصادياً مهماً، ويعزز من تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة من خلال المحافظة على الحرف التقليدية ودعمها.

ومن هنا، نجد أن الأنثروبولوجيا الحضرية تُضيف بعداً آخر لدراسة التراث الإماراتي، وخاصة في ظل التغيرات الحضارية السريعة التي تشهدها المدن الكبرى حيث تتم إعادة تشكيل العادات التقليدية لتتلاءم مع الواقع الحضري المعاصر.

ويُعد سوق البهارات في دبي نموذجاً حياً لهذا التفاعل، حيث نجد كيف يتم الحفاظ على التراث التجاري التقليدي وتقديمه بشكل حديث يتناسب مع بيئة المدينة العالمية. وقد أظهرت المفكرة «جين جاكوبس» أهمية دراسة هذا التفاعل بين التراث والحداثة، حيث يُظهر أن الحياة الحضرية لا تُعزل التراث، بل تُعيد تقديمه بطرق تلبي متطلبات المجتمع المعاصر.

التراث الإماراتي لا يعبر فقط عن مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بل يعكس أيضاً العلاقة بين الإنسان وبيئته الطبيعية، وهو ما تُعنى به الأنثروبولوجيا البيئية التي تتيح لنا مثلاً دراسة التقاليد المرتبطة بالزراعة والرعي والصيد البحري، وتجعلنا نفهم كيفية تفاعل الإنسان الإماراتي مع البيئات المختلفة كالبيئة الصحراوية القاسية.

ومن خلال دراسة هذه العادات، يمكننا أن نرى كيف أن التراث يُستخدم كوسيلة للتكيف مع البيئة الطبيعية، حيث تُقدم تقنيات مثل نظام الأفلاج نموذجاً مستداماً لإدارة الموارد المائية، ما يعكس ابتكار الإنسان الإماراتي في التعامل مع التحديات البيئية ما يعني أن التراث يعبر عن العلاقة التفاعلية بين المجتمعات وبيئاتها، وهو ما يجعل من التراث الإماراتي مرآة تعكس كيف تأقلمت هذه المجتمعات مع الطبيعة المحيطة بها.

لذلك، تظهر لنا الأنثروبولوجيا كأداة حقيقية لفهم التراث الإماراتي بأبعاده المتعددة والمتداخلة. لتشمل التأثيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية وغيرها، وكيف أن التراث يُسهم في تشكيل هوية المجتمع وتوجيهه عبر الأجيال.