منذ اندلاع الحرب الروسية ــــ الأوكرانية، انتشرت تقارير كثيرة من مصادر مختلفة مفادها أن بكين ستقتدي بموسكو وتغزو تايوان التي تعتبرها إقليماً منشقاً، خصوصاً وأن الزعيم الصيني «شي جينبينغ» تعهد مراراً بإعادة توحيدها مع البر الصيني حتى لو لزم الأمر استخدام القوة.
وفي الأسبوع الماضي، أقدمت بكين على مدى يومين بإجراء ما يمكن وصفه بأضخم مناورات عسكرية في مضيق تايوان، تحت اسم «السيف المشترك»، وبمشاركة أعداد كبيرة من السفن الحربية والمقاتلات الهجومية والمسيرات.
حبس العالم أنفاسه خوفاً من اندلاع حرب جديدة في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية، وراح بعض المراقبين يؤكد أن الصين عازمة هذه المرة على غزو شامل لأراضي تايوان، منتهزة انشغال الأمريكيين بحرب أوكرانيا وأوضاع الشرق الأوسط وانتخاباتهم الرئاسية.
ولم ينقطع سيل التنبؤات والتحليلات والتحذيرات، إلا بعد اختتام الصينيين لمناورتهم التي تبين أنها كانت عقابية وتحذيرية ضد زعماء تايوان ورموز «الحزب الديمقراطي التقدمي» الحاكم المعروفين بتوجهاتهم الانفصالية واستفزازاتهم المتكررة لبكين، والتي كان آخرها ما بدر من الرئيس التايواني «لاي تشينغ تي» (انتخب في يناير 2024)، إذ تعهد قبيل المناورات بأيام قليلة بمقاومة أي عملية لضم بلاده الديمقراطية إلى الصين الشيوعية، قائلاً إن تايوان ليست تابعة للأخيرة.
في بيان انتهاء المناورات قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية إن بلاده مستعدة للعمل من أجل إعادة التوحيد سلمياً، لكنها لا تعد بعدم استخدام القوة ولن تعطي أدنى مساحة لأولئك الساعين للاستقلال.
والمعروف أن المناورات الصينية العسكرية في مضيق تايوان تكررت خلال السنوات القليلة الماضية، بل شهد العام الجاري وحده أربع مناورات كان آخرها في مايو المنصرم.
لكن المناورة الأخيرة في 14 أكتوبر كشفت عن استراتيجيات جديدة لبكين. ذلك أن التركيز فيها كان على قوة سلاح البحرية مع مشاركة واسعة لقوات خفر السواحل تحديداً، وتدريبات مكثفة على أعمال التفتيش ومحاصرة الموانئ والطرق البحرية وقطع السبل على أي تدخل أجنبي، خصوصاً وأن بكين استخدمت فيها السفينة الضخمة (CCG 2901) ذات المميزات الكثيرة في حالات اصطدام السفن ببعضها أو إعاقتها، علماً أنها الأكبر في سلاح خفر السواحل، ويفوق وزنها وزن أثقل المدمرات الأمريكية.
وهذا أوحى للكثيرين بأن المناورات الأخيرة لم تكن سوى بروفة لاستراتيجية صينية جديدة حيال تايوان. وبعبارة أخرى بروفة مستقبلية لاستعادة تايوان بالاعتماد على فرض حصار بحري شامل حولها لقطع وارداتها وصادراتها وخنقها اقتصادياً، بدلاً من استراتيجية الغزو عن طريق الإنزال الجوي والبري. والمعروف، في هذا السياق، أن معظم المراقبين الغربيين اعتقدوا طويلاً أن الصين سوف تسعى لضم تايوان بتوجيه ضربة مفاجئة لها تمكنها من تحقيق هدفها مباشرة ودون عناء، وذلك بقطع رأس القيادة في تايبيه.
وكتأكيد على استراتيجية الحصار بدلاً من الغزو المباشر قالت صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الحكومية أن السفينة GCC والقطع التابعة لها سوف تكثف من وتيرة أنشطتها حول تايوان، معلنة بذلك عزم بكين على منحها دوراً أكبر في الجهود الصينية الرامية للضغط على تايبيه والتايوانيين. ثم جاء تصريح متحدث باسم الجيش الأحمر ليعزز هذا التأكيد بقوله إن الغرض من المناورات الأخيرة هو تحقيق وضع يتم فيه حصار جزيرة تايوان المنشقة من كل الجوانب، شاملاً قطع وارداتها وإقامة حائط صد ضد أي تدخل أجنبي يأتي من الشرق (أي من الولايات المتحدة).
ويرى المراقبون أن بإمكان بكين استعادة تايوان بقصف عسكري مفاجئ، كما قلنا، لكن استراتيجية الحصار تسمح بإخضاعها دون خسائر بشرية ومادية هائلة ودون الدخول في مواجهة عسكرية شاملة ومكلفة مع الولايات المتحدة، لا سيما وأن القوة البحرية الصينية تستطيع بتكتيكاتها الحصارية أن تبقي أساطيل واشنطن القادمة لنجدة تايوان في حالة من عدم اليقين حول قواعد الاشتباك لأشهر أو ربما لسنوات، تكون خلالها الأوضاع قد تغيرت.
ومن الواضح هنا، أن بكين تراهن على الزمن في شل الاقتصاد التايواني المعتمد بنسبة 98% على الخارج في واردات الطاقة، كما أنها تراهن على تعميق الانقسام السياسي الراهن في تايوان، حيث إن نسبة كبيرة من التايوانيين هم من أنصار الحزب القومي (الكومينتانغ)، الذي أسس وأدار البلاد لعقود طويلة بقيادة الماريشال تشانغ كاي تشيك، ويتبنى حالياً فكرة أن تايوان جزء من الصين، ويفضل إقامة علاقات جيدة مع بكين، ويعارض فكرة إعلان الاستقلال التي يتبناها الحزب الحاكم، لا سيما وأنه يملك الصوت الأعلى في المجلس التشريعي لتايوان.