العلاقة بين التراث والتنمية الاقتصادية تتجاوز كونها مجرد تفاعل بين عناصر مادية؛ إنها علاقة تتشابك فيها القيم الثقافية والاجتماعية مع الطموحات الاقتصادية في نسيج عميق يعكس صلة الإنسان بماضيه وحاضره ومستقبله. فالتراث، الذي يشمل الموروثات المادية والمعنوية، هو صورة حقيقية عن هوية الأمة وأصالتها، وهو أيضاً بُعد معنوي يسهم في صياغة رؤى التنمية واستشراف مستقبل أكثر ثراءً وتنوعاً. لذلك، يصبح التراث ليس مجرد ماضٍ يجر الماضي، بل مصدراً متجدداً يُستدعى لإثراء الاقتصاد، ويدفع نحو تنمية تتسم بالعمق الثقافي وتجاوز القيم المادية المحضة.
تعتبر السياحة الثقافية مثالاً حياً على كيفية تحويل التراث إلى مورد اقتصادي. هذه السياحة لا تعتمد فقط على جذب الزوار إلى المواقع التاريخية والمتاحف والمعارض والمهرجانات، بل تمثل نافذة على التاريخ الإنساني وموروثاته العريقة. حيث يتحول التراث إلى أداة تمكين وتواصل مع العالم، ويستلهم السائح مثلاً، من خلال زيارة المواقع والمعالم والقرى التراثية، تجارب حضارية عميقة، تلخص التنوع والعمق الثقافي. وبهذا، يصبح السائح جزءاً من تجربة شاملة تعكس التراث بصفته مجالاً للابتكار والتجديد، وليس مجرد محاكاة جامدة لماضٍ بعيد، تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
دولة الإمارات، بتوجهاتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الفريدة، أصبحت نموذجاً مميزاً في دمج التراث مع الحداثة، ليس فقط من خلال ترسيخ صورة مشرفة للماضي، بل عبر تحويله إلى جزء من الهوية الحية التي تتبنى التنوع وتحتضن الآخرين. ويبدو هذا جلياً في قوة الإمارات الناعمة، التي تتبنى نشر قيم الدولة كالتسامح والاحترام والتعاون وحب الخير والانتماء والبذل والعطاء، فتخلق بذلك بيئة تحتضن ثقافات العالم بقدر ما تعزز فيها الوعي بالتراث المحلي. وهنا يتحول التراث إلى قيمة اقتصادية ناعمة تجذب الاستثمارات وتخلق فرص العمل، كما أنه يعزز من صورة الدولة في أذهان الشعوب، ويجعلها محط الأنظار ومقصداً لرواد الأعمال في مجالات الثقافة والصناعات الإبداعية.
أما على صعيد الصناعات الثقافية والإبداعية، فقد حققت الإمارات قفزة نوعية في دمج التراث ضمن الأنشطة الاقتصادية. هذه الصناعات تفتح آفاقاً جديدة، ولكن يمكن تطويرها بصوة أكبر، بحيث تتجاوز الحرف اليدوية التقليدية وظيفتها كمهنة قديمة إلى دور أكثر حيوية، من خلال دمج الحرف في الصناعات الحديثة. كالنسيج وصناعة الفخار والسفن، وتصبح أيضاً وسيلة لتعزيز الدخل المحلي، وتجسيد حي للتراث الذي يمكن أن يتحول إلى منتج يحمل هوية ثقافية وروحاً تجارية عالمية.
الاقتصاد الإبداعي يشكل بدوره مفهوماً عميقاً يمتد إلى جوهر العلاقة بين الثقافة والاقتصاد، حيث يتيح مساحة واسعة للإبداع الذي يجمع بين التراث والابتكار، وقد بادر رواق عوشة بنت حسين الثقافي، بالتعاون مع صندوق الفرجان، لإقامة مهرجان إكسبو 971 التراثي الحرفي، مطلع هذا الأسبوع، في حديقة مشرف، فجمع الفنانين الإماراتيين والعرب والحرفيين الإماراتيين والفرق الشعبية والشعراء الذين استلهموا من العناصر التراثية الإماراتية وقدموا لوحات مميزة تعكس الهوية الإماراتية، والتي تحتاج أيضاً أن تجد طريقها إلى الأسواق العالمية. فهذا الاقتصاد لا يقتصر فقط على تحقيق الربح، بل يحمل معه رسالة تعزز من قيمة التراث وتجعله حاضراً في الثقافة العالمية عبر مفردات جديدة تعكس روحه ويتحول التراث إلى مصدر إلهام للإبداع المستدام، فيتجاوز دوره كوسيلة لتجميل الحاضر إلى عنصر نشط يشكل المستقبل.
وفي إطار التنمية المستدامة، يتحول التراث إلى أداة لتحقيق توازن بين الحفظ والتنمية. هذا التوازن يجسد الفلسفة العميقة للعلاقة بين الماضي والمستقبل؛ إذ يتطلب الحفاظ على المواقع التراثية، نظرة بعيدة المدى تتجاوز الرؤية الآنية لتشمل ضرورة الاستفادة من هذا التراث كمورد يساهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام. وهنا تتجلى العلاقة بين التراث والتنمية في صورة فلسفية، حيث يمثل الماضي قيمة قابلة للتجدد والتطور، وليس عبئاً يثقل كاهل الأجيال القادمة. من خلال استثمار المواقع التراثية وتحويلها إلى مصادر اقتصادية، تضمن الإمارات استمرار التراث كقيمة حضارية واقتصادية في آن واحد، وتسهم في ترسيخ مفهوم التنمية التي تدمج بين الأصالة والابتكار.
إن القوة الحقيقية للتراث لا تكمن فقط في حفظ الهوية الثقافية، بل في قدرته على أن يكون مصدر إلهام وابتكار يسهم في الاقتصاد المعاصر. من خلال تشجيع المبدعين على استلهام أعمالهم من التراث الثقافي لإنتاج خدمات ومنتجات تعزز الاقتصاد الوطني وتبرز الهوية الإماراتية بشكل مبتكر، وقد يكون ذلك من خلال وضع سياسات لتحويل التراث إلى مورد اقتصادي وثقافي، يضمن المحافظة على الإرث الثقافي، كذلك يضمن استمراريته وازدهاره في عالم اليوم والمستقبل.