الديمقراطية قبل الانتخابات وبعدها

أسدل الستار، أمس، على الانتخابات الأمريكية الرئاسية الستين، والتي تجرى كل أربع سنوات، ومن المقرر أن يتم تنصيب الفائز في هذه الانتخابات يوم 20 يناير 2025 بعد استكمال كل المسائل الإجرائية الدستورية.

وتنافس على هذه الانتخابات المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، الذي يريد استعادة كرسي الرئاسة، ومرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي الحالي، التي أخذت مشعل السباق عن جو بايدن.

وتجري هذه الانتخابات المهمة بالتوازي مع انتخابات الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، وكذلك انتخابات حكام الولايات، والمجالس التشريعية لهذه الولايات.

وبصرف النظر عن اسم الفائز في هذه الانتخابات المصيرية بكل المقاييس لأمريكا والعالم يكاد الملاحظون يجمعون أن هذه الانتخابات ستحدد بشكل كبير مصير ومستقبل الديمقراطية في الولايات المتحدة، وربما في دول عديدة من العالم.

وإن المتتبع لمجريات الأحداث في الحملة الانتخابية الأمريكية يلاحظ بوضوح تنامي وتيرة الخطابات العنيفة، والتي طغت وغيبت بشكل خطير قواعد التنافس السياسي، الذي من المفترض أن يقوم على صراع البرامج.

وقد كان هذا السلوك لافتاً، خصوصاً لدى مرشح الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، الذي ما انفك يعلن نواياه الثأرية تجاه خصومه السياسيين ومعارضيه بمجرد فوزه في هذه الانتخابات، والفوز هو السيناريو الوحيد والمؤكد في تقديره، والذي يمكنه القبول به.

ومثلت التهديدات المتواترة لخصومه ومعارضيه على مدى حملة انتخابية محمومة السمة المميزة لخطاب دونالد ترامب، وبدت أمريكا خلالها وحتى منذ الانتخابات الرئاسية السابقة منقسمة إلى درجة الغياب التام للحوار بين المتنافسين السياسيين

ومعلوم أن ترامب ما زال رافضاً الاعتراف بهزيمته في انتخابات 2020، التي خسرها أمام الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، ورفض ترامب كذلك وإلى اليوم الاعتراف المسبق بنتائج الانتخابات الحالية، معتبراً أن العملية الانتخابية لاغية إذا لم تمكنه من الفوز، وهو ما يرى فيه الملاحظون نسفاً للآلية الأساس في المنظومة الديمقراطية التي هي القبول بآلية الانتخابات وبنتائجها.

وترى أطراف عدة داخلية وخارجية أن غايات الرفض والطعن في نتائج الانتخابات ليست مجرد عدم قبول بالنتائج، بل هي محاولة لتقويض المنظومة الديمقراطية التي لا تتلاءم مع شخصية دونالد ترامب، وهو أيضاً ولذلك لا يُخفي استهدافه للإدارة الأمريكية والدولة العميقة، والتي يتهمها دوماً بالتواطؤ مع الديمقراطيين، وبتزوير الانتخابات.

وتُقيم كل المؤشرات الدلائل على أن «أكبر ديمقراطية» في العالم تشهد تراجعاً يهدد ديمومة هذه المنظومة، التي تعد فيما يبدو القاسم المشترك بين الأمريكيين.

ومن المهم التذكير بأن العوامل المهددة لاستمرار ودوام المنظومة الديمقراطية لا تقتصر على رفض آلية الانتخابات ونتائجها، بل تشمل عوامل أخرى أسهمت وتسهم بشكل مباشر في الانهيار المحتمل للمنظومة الديمقراطية.

ومن ذلك عودة العنف بكل أشكاله، وتنامي فكر شعبوي معادي في العمق لأسس الديمقراطية، ولا يتلاءم في جميع الأحوال مع السلوكيات والخطابات والسرديات السائدة، وهو فكر يرفض معتنقوه ممارسة السلطة في وجود سلطة مضادة، وضوابط قانونية ودستورية ملزمة، ما يفسر نزوع ترامب المنتظم لانتهاك قواعد اللعبة الديمقراطية، وقد قام بشكل ممنهج بمحاولة تقويض مؤسسات الدولة، بما في ذلك الإدارة والإعلام والأحزاب.

كل الدلائل تشير إذاً إلى أن الديمقراطية الأمريكية في خطر محدق، وقد يكون هذا ما دفع الكاتب والروائي الأمريكي جيروم شارين في مقال نشرته الاثنين الماضي جريدة لوموند الفرنسية، إلى القول إن «انتخابات 5 نوفمبر الجاري ستكون آخر انتخابات شرعية في الولايات المتحدة الأمريكية»، مبرزاً تداعيات ذلك على الديمقراطية في العالم، والتي تهددها هي الأخرى، وبشكل مباشر التيارات الشعبوية والمتطرفة من اليمين واليسار.

إن نشأة وتركيبة الولايات المتحدة تكتسي خصوصية لا يبدو أنها تتماشى مع فكر شعبوي ومتسلط ومركزي، لأن «الأمة» الأمريكية ليست وليدة تاريخ وحضارة مشتركة، بل هي نشأت بفعل عقد سياسي، يعبر عن إرادة سياسية للعيش بين ولايات لا تتشابه وفاعلين سياسيين مختلفين.

ولا يبدو أن الولايات المتحدة ناضجة للقبول بموديل سياسي جديد، وهو ما يُضفي على الأزمة السياسية والاجتماعية في هذا البلد مزيد الحدة، وهي أزمة ستنعكس بلا شك على باقي دول العالم نظراً للمكانة الكبيرة والمحورية، التي تحتلها أمريكا في عالم مُقبل على تحولات جيوسياسية كبرى، وقد لا يكون فيها للديمقراطية المكانة الأهم.