التجديد الروحي في فلسفة التراث

خلال البحث عن طرق مبتكرة للحفاظ على التراث، تبرز الأبعاد الروحية والنفسية التي تمنح التراث عمقاً يتجاوز كونه إرثاً محفوظاً أو ممارسة مستدامة. وهنا نجد مفهوم «التجديد الروحي للتراث» كإطار يحافظ على الروح الثقافية للمجتمع، ويعزز هويته من خلال تمكين أفراد المجتمع من الارتباط العميق بمعاني تراثهم وقيمه، بحيث يصبح التراث وسيلة للتجدد الروحي وللحفاظ على هوية متجددة ومرنة، قابلة للتكيف مع تحديات العصر.

وقد تحدث «كارل يونغ» عن التراث باعتباره جزءاً من «اللاوعي الجماعي»، وهو مكون من الرموز والأساطير التي تتوارثها الأجيال، مما يشكل جانباً أساسياً من هوية الأفراد والمجتمعات. فالتقاليد والرموز الشعبية هي حزمة من المعاني والأفكار التي تترسخ في الوعي الجمعي، وتمنح الأفراد شعوراً بالانتماء.

إذاً، عندما يتفاعل المجتمع الإماراتي مع رموزه التراثية، ويعيد إحياء تاريخ عريق يعبر عن قيم أصيلة، فإنه يعزز اتصالهم الجماعي بجذوره. ويمثل هذا الاحتفال جزءاً من الهوية الجماعية التي يغذيها التراث، والتي تجعل الإماراتي يشعر بالانتماء المتجدد لمجتمعه.

وفي كتابه «العود الأبدي»، جادل «ميرسيا إلياده» بأن المجتمعات تجد طمأنينتها الروحية من خلال العودة إلى طقوسها وممارساتها التراثية، تلك التي تعيد الروح الثقافية إلى الحاضر، وتضفي معنى أكبر على وجودها. وإن هذه الطقوس التقليدية تخلق حالة من الانسجام بين الماضي والحاضر، ما يمنح المجتمع تجربة من «التجدد الروحي».

وهذه الفكرة تنعكس في المجتمع الإماراتي عبر الاحتفال بفعاليات مثل «يوم العلم» و«عيد الاتحاد» وغيرها، حيث لا يقف الاحتفال عند الترفيه، بل يمثل لحظات خلابة لتجديد الانتماء والاعتزاز بالجذور، ليشعر المواطن الإماراتي أن تراثه مرتبطٌ بهويته المعاصرة، وأنه في تواصل مستمر مع روح أسلافه.

وقد قرأت ذات مرة في كتاب «فلسفة المكان» لـ «غاستون باشلار»، أن الأماكن التي عاش فيها الأسلاف تحمل طاقة روحية تعكس علاقتهم العميقة مع التراث. وأن ذاكرة المكان ترتبط بتجاربهم، فالأماكن تمثل مرآة تعكس الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات. لذلك لا بد من ربط الأجيال الجديدة بقوة مع المواقع والأماكن التراثية، ما يمنحهم شعوراً بالانتماء إلى بيئة تعكس هويتهم العريقة. وقد يعيشون تجربة من التجدد الروحي، ويتنفسون ذات الروح التي كانت تسكن أجدادهم، ويستعيدون من خلال التراث المكاني معاني الانتماء والهوية.

وقد ناقش «إريك فروم» في كتاباته مفهوم «الاغتراب الروحي»، أن التراث يشكل حلاً لهذا الاغتراب، حيث يعيد التراث للأفراد اتصالهم بالجماعة، فالمجتمعات التي تتجاهل تراثها تعاني من شعور بالانفصال والاغتراب، وأن التراث، بمكوناته الروحية والثقافية، يمثل وسيلة لتعزيز الترابط بين الأجيال.

لذلك فحين ينغمس الشباب في الحياة العصرية، يمكن أن يبقى التراث وسيلة لربطهم بجذورهم، فالأهازيج الشعبية والأمثال المتداولة والحكايات التراثية تعزز اتصالهم بمجتمعهم، وتقلل من مشاعر الاغتراب، ويظل التراث تلك القوة التي تربطهم بروح الإمارات الأصيلة، ما يجدد فيهم روح الانتماء ويربطهم بقيم مجتمعهم.

العلاقة بين التراث والروح، كما رأينا، هي حالة يمكن رصدها، ثم تفعيلها كقوة ناعمة في إعادة تجديد الروح والهوية، بحيث يمكننا جعل التراث يتجاوز كونه مجرد موروث مادي، ليصبح عاملاً أساسياً في بناء روح المجتمع وتعزيز الهوية.

وجعل دولة الإمارات نموذجاً متجدداً للتفاعل مع التراث، بصناعة «التجدد الروحي»، وذلك من خلال زيادة وتكثيف في الفعاليات التراثية وإيصالها إلى كافة الفئات، وتفعيل زيارات الأماكن التاريخية والمتاحف والقرى التراثية، وزيادة التواصل مع الحرف التقليدية، ومطالعة الكتب التراثية والاستماع إلى الأهازيج الشعبية وترديدها في كل المناسبات وتعليمها للأولاد والأحفاد، بإيقاعها الموسيقي العذب، فتتغلغل في وجدانهم، فتخلق حالة من التجدد الذي يضمن استدامة التراث، فيصبح الجميع ينظر إليه كمصدر إلهام لروحانية متجددة تمنح الأجيال الجديدة طاقة الحب والولاء والانتماء.