تجاوز حدود الصلاحيات

بسبب خطأ أحد المهندسين، تعرضت أنظمة تكنولوجيا المعلومات لشركة الخطوط الجوية البريطانية لعطل شامل عام 2017، تسبب في إلغاء مئات الرحلات وتأثر عشرات الآلاف من الركاب جراء ما فعله ذلك الرجل. هل يعقل أن يخطئ شخص فتتحمل شركته خسائر مادية فادحة قدرت بنحو 150 مليون جنيه إسترليني، فضلاً عن اهتزاز سمعتها حول العالم؟

في رأيي المشكلة ليست في الخطأ الذي كشفت عنه التحقيقات بقدر ما هو في نطاق الصلاحيات، الذي لم يُعَد النظر فيه كما هو متعارف عليه. وهذه القصة دليل على أن لائحة الصلاحيات ليست مسألة شكلية بل قد ينتج عن تجاهلها تصرف يدمر سمعة مؤسسة أو يعرض الناس للخطر.

فما حدث يعود إلى «استعادة غير مضبوطة لإمدادات الطاقة» من قبل مقاول الشركة المتعاقد معها! حيث تسبب الخطأ في تحويل طاقة من المولدات الاحتياطية إلى النظام بجهد يبلغ 480 فولت بدلاً من 240 فولت المتعارف عليه، مما ألحق أضراراً جسيمة بالبنية التحتية، ما أدى إلى شلل كامل لأنظمة «بريتش أيرويز» حول العالم، حسبما ذكرت صحيفة ذي ريجستر.

والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف يمكن لخطأ بهذا الحجم أن يرتكبه فرد أو فردين. ولذلك لا تحبذ تطبيقات الإدارة الحديثة أن ترتكز الصلاحيات الخطرة في يد فرد أو فردين. فهناك علاقة طردية بين ارتفاع درجة الخطورة وبين مستويات الصلاحيات. وعليه تضطر الإدارة العليا إلى عدم السماح بتصدير أي شيك مصرفي يتجاوز مبلغاً معيناً إلا بعد توقيع شخصين أو أكثر.

ليس ذلك كإجراء إداري داخلي فحسب، بل ترسل التعليمات للمصارف بعدم قبول أي شيك لا يوقع عليه أكثر من شخصين أو ثلاثة لمبالغ هائلة، وشخص واحد لمبلغ بسيط. باختصار تودع المصارف لائحة الصلاحيات المالية في أنظمتها حتى إذا ما جاءها شيك لم يستوفِ الشروط لا تصرفه له، إلا بعد توقيع الأشخاص المخولين.

ولذلك، لا تَشُن كثير من بلدان العالم حروباً هجومية إلا بعد موافقة مجلس أعلى (أو برلمان) لرفع العبء عن كاهل شخص واحد. والأمر نفسه يحدث في الأمور الفنية الخطيرة كتلك المرتبطة بسلامة الركاب كإقلاع الطائرة بخلل يمكن التغاضي عنه في محركاتها، شريطة أن يوقع عليه ثلاثة فنيين أو مهندسون مؤهلون. والأمر ينسحب على سائر المخاطر.

لائحة الصلاحيات وجدت لتحمي متخذ القرارات وأصحاب المصلحة من تداعياتها. وهي ليست شكلاً من أشكال البيروقراطية كما يتصور البعض. فهي وثيقة تنظيمية تهدف إلى تحديد المسؤوليات والصلاحيات الممنوحة للأفراد في المنظمة وفقاً لمناصبهم ومستوياتهم الإدارية. يتمثل الهدف الرئيسي لهذه اللائحة في ضمان انسيابية العمليات، وتعزيز الشفافية، وتجنب تضارب المصالح وسوء استغلال السلطة.

ولذلك تعد لائحة الصلاحيات محوراً أساسياً في الحوكمة المؤسسية، لأنها تساعد على توزيع المسؤوليات. وذلك بحد ذاته يخفف العبء عن كاهل المسؤولين بحيث يسمح باتخاذ القرارات على مستويات أدنى لتسريع وتيرة إنجاز المهام.

من دون حدود صلاحيات سوف تصبح الأمور هلامية، لافتقارها إلى نظام رقابي داخلي يضمن متابعة ومراقبة القرارات المالية والإدارية. فالتجاوزات ليست مالية فحسب، فهناك من يتخطى حدود صلاحياته الإدارية فيعين من يشاء أو يفصل من يشاء أو يتعاقد مع ما «يحلو له» من جهات خارجية.
لائحة الصلاحيات أداة جوهرية في بناء هيكل إداري فعال ومتكامل، حيث إنها تمنع الإفراط في المركزية وتتيح اتخاذ قرارات أكثر تخصصية وديناميكية على مختلف المستويات الإدارية. و«تحمي» لائحة الصلاحيات المسؤولين من الزلل والسهو والنسيان. فكل ابن آدم خطاء.

كاتب كويتي متخصص في الإدارة