شهر أكتوبر هو شهر «المفاجآت» في انتخابات الرئاسة الأمريكية. فقد اعتاد الإعلام على ترقب ما يسميه «مفاجأة أكتوبر». وبغض النظر عن حدوث المفاجأة من عدمه فإن المغزى وراء ترقبها هو الأهم، لأنه يؤكد على أن كل يوم من أيام المعركة الانتخابية قد يحمل جديداً يقلب الموازين ويغير بالضرورة من نتيجة الانتخابات. ولا يكون ذلك الجديد مفاجئاً بالضرورة.
لكنه يمثل على الأقل تحولاً جوهرياً. وهذا بالضبط ما قد يحدث في الانتخابات الحالية. فلعل التحول الجوهري الأهم، في تقديري، هو احتمالية تغير توجهات السود الأمريكيين وسلوكهم التصويتي.
فقد كشفت استطلاعات الرأي عن أن نسبة السود الأمريكيين الذين ينوون التصويت للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب العام الحالي أعلى بكثير من نسبتهم التي تذهب عادة للجمهوريين في الانتخابات الرئاسية.
فالسود من أكثر الجماعات ولاء للحزب الديمقراطي. فهم يعطون أصواتهم للديمقراطيين المرشحين لكافة المناصب الفيدرالية بنسبة أعلى بكثير من أية أقلية أخرى. فعلى سبيل المثال حصل جو بايدن في انتخابات 2020 على 92% من أصواتهم.
بينما حصل ترامب على 8% فقط من أصواتهم. أما العام الحالي، فقد تبين من استطلاعات عدة، لا استطلاع واحد، أن نسبة تصويت السود لكاملا هاريس مرشحة لأن تنخفض كثيراً عن نسبة تصويتهم في الانتخابات الماضية.
ولو صحت تلك الاستطلاعات، قد يحصل ترامب على ما يقرب من 20% من أصوات السود، وهي نسبة تمثل علامة فارقة وتحولاً راديكاليا في مواقف السود منذ الستينات.
فبسبب الدعم القوي للرئيسين الديمقراطيين كينيدي وجونسون، لمطالب حركة الحقوق المدنية، بات السود منذ ذلك التاريخ من أهم القطاعات التي يعتمد الديمقراطيون على أصواتها للفوز. وتقول الاستطلاعات الأخيرة إن مصدر ذلك التحول، هو السود من الرجال ممن تقل أعمارهم عن الخمسين سيعطون أصواتهم لترامب.
ويفسر بعض المراقبين مواقف أولئك الرجال في سياق فقدان نسبة كبيرة من السود عموماً الثقة في إدارة بايدن فضلاً عن التضخم الذي يضر بالسود من الرجال على وجه الخصوص. غير أن الأسباب تذهب في تقديري، لما هو أبعد من ذلك بكثير. فالسود لم يفقدوا فقط الثقة في إدارة بايدن وإنما تزداد على مدار عقدين أعداد من تنهار ثقتهم بالديمقراطيين عموماً.
ونقطة البداية في ذلك التحول جاءت مع حملة بيل كلينتون الانتخابية في 1992 وولايتيه الأولى والثانية. فحملة كلينتون الانتخابية كانت مبنية في الأصل على استراتيجية تقوم في جوهرها على أن الفوز يتطلب جذب المستقلين وقطاع واسع من البيض الذين يقطنون ولايات الجنوب، فضلاً عن ضرورة اجتذاب أصحاب الأموال الكبار من أجل تمويل الحملات الانتخابية للديمقراطيين.
وتلك الاستراتيجية كانت تعني ضمناً تجاهل مطالب قطاعات من القاعدة الانتخابية للحزب وعلى رأسها السود. وكان المنطق وراء تلك الفكرة الجوهرية هو اعتبار أصوات الصوت من المسلمات.
فسواء استجابوا لمطالب السود أم لم يستجيبوا، سيحصل الديمقراطيون على أصواتهم كونهم لا يملكون التصويت للجمهوريين حفاظاً على مصالحهم. فرغم تجاهل أولوياتهم، سيظل الديمقراطيون أفضل الشرين بالنسبة للسود وغيرهم من الأقليات. واستخدم كلينتون وقتها الدلالات الرمزية لكسب السود، كعزفه لآلة الساكسفون، دون أن يقدم لهم تعهدات تذكر.
وكلينتون الرئيس لم تختلف سياساته كثيراً عن الجمهوريين فيما يتعلق بقضايا السود، بل صدر في عهده وبدعمه قانون مكافحة الجريمة عام 1994 الذي كان السبب الرئيسي في الزيادة الهائلة في أعداد السجناء من الرجال السود مما أدى لعواقب وخيمة على الأسرة السوداء.
كما نجح كلينتون في أن يؤمن الدعم المالي للحزب عبر عدد من الشركات الكبرى، الأمر الذي كان يعني بالضرورة تبني سياسات اقتصادية يمينية مقابل تلك الأموال، مما أضر بالسود وغيرهم من الأقليات.
ومنذ عهد كلينتون صار الديمقراطيون يستخدمون الاستراتيجية نفسها في التعامل مع أصوات السود. وحملة كاملا هاريس تتبنى النهج نفسه، وهو ما يستعدي الرجال السود، على وجه الخصوص. ثم إن مواقف هاريس اليمينية التي تبنتها أثناء عملها في النيابة العامة بولاية كاليفورنيا يقوض ثقة أولئك الرجال في إمكانية إصلاح النظام الجنائي القضائي، الذي يميز بوضوح ضد السود، في عهدها.
أما الشباب السود من الجنسين، فقد أضافت غزة قضية أخرى لسلسلة الأسباب التي تعمق من أزمة الثقة. فهؤلاء الشباب هم الناشطون الذين يشكلون العصب الرئيسي لنجاح أية حملة انتخابية، فهم الذين يتطوعون في الحملات الانتخابية ويطرقون الأبواب. والمفارقة هي أن أول مرشحة سوداء للرئاسة هي التي قد تخسر أصوات السود.
ورغم أن نسبة السود التي تؤيد هاريس لا تزال أعلى بما لا يقارن بترامب، ففي انتخابات سيكون فيها الهامش بين هاريس وترامب ضئيلاً للغاية، فإن تصويت 20% من الرجال السود لترامب في ولاية من الولايات المتأرجحة أو امتناعهم عن التصويت، قد يعني هزيمة هاريس.