شبهات حول مصير «الحلم الأمريكي»

معظم الأدبيات الموضوعية، المعززة بدراسات استقصائية وإحصائية حديثة، تعرض صورة إيجابية لدور المهاجرين في نهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية للولايات المتحدة. يذكر روبرت فيرلي، أستاذ السياسة العامة والاقتصاد بجامعة كاليفورنيا، الذي أشرف على واحدة من هذه الدراسات، أن معدل ريادة الأعمال الناجحة بين المهاجرين اللاتينيين، المتحدرين من أصول أيبيرية برتغالية وأسبانية، أعلى بكثير من منسوبها بين بقية الأمريكيين.

في خلاصة دراسته الكاشفة، التي أكد حرفيتها وصحتها «تقرير حالة ريادة الأعمال»، الصادر عن كلية الدراسات العليا بجامعة ستانفورد في مارس الماضي، لاحظ فيرلى أن الشركات الأمريكية التي يملكها اللاتينيون زادت بين عامي 2007 و2022 بمعدل 57%. وأن 25% من رواد الأعمال الجدد في العام 2021 كانوا من أبناء هذه الشريحة «هؤلاء الذين باتوا يستحوذون على نحو 4.7 ملايين شركة تجارية، تساهم في الاقتصاد الأمريكي بأكثر من 800 مليار دولار سنوياً».

لا يتعلق هذا المنظور المشرق حصرياً بالمهاجرين اللاتينيين، وإنما هناك ما يوجب تعميمه على الوافدين من عوالم الجنوب، كالآسيويين والعرب والأفارقة، بدرجات متفاوتة.. أولئك الذين ما زالوا يطرقون الأبواب الأمريكية، محفوزين بأحلام البحث عن فرص حياة أفضل، وثبت أنهم يشكلون إضافة لدولاب الاقتصاد وليسوا عبئاً عليه.

فغداة انقشاع الموجة الأكبر من وباء كورونا، التي أودت بحياة 1.2 مليون أمريكي، ذهب تحقيق لدورية فورين أفيرز (ديسمبر 2022) إلى أن المهاجرين والأجانب، مارسوا دوراً معتبراً في محاربة الوباء، لا سيما لجهة سد عجز العمالة في قطاعات حيوية كالتمريض والنقل والتجارة الداخلية والصحة العامة.. بل إن «توظيفهم وفق توجهات حصيفة، كفيل بمعالجة أزمات التضخم التي تطل بين الحين والآخر».

لا يتسع المقام هنا للاستطراد إلى ما بات معلوماً بالضرورة، وهو أن أحاديث التنويه والإشادة بأداء المهاجرين في ذروة أيام الوباء، كانت حالة عامة مشتركة وعابرة تقريباً لكل المجتمعات الغربية.. حتى أن المؤسسات المعنية في عواصم، كبرلين ولندن وباريس واوتاوا وكانبرا، راحت تتساهل في شروط استقبالهم، وصولاً إلى السماح بتجنيس البعض منهم.

وعليه، يبدو من المستهجن والمثير للحفيظة حقاً، السرعة التي حاول بها أصحاب الرؤى الاستعلائية العنصرية الفجة، في الولايات المتحدة بالذات، تجاهل تلك الأحاديث والوقائع ومحوها من ذاكراتهم، والاتجاه إلى تبني خطاب يميل إلى شيطنة الهجرة والمهاجرين، رغم أننا لم نبتعد عن تلك الأيام العصيبة إلا بمسافة زمنية قصيرة!

يشهد بهذه المفارقة السلبية راهناً، التعبيرات المسيئة، التي يضفيها على المهاجرين ومرجعياتهم وأصولهم الاجتماعية التاريخية، أناس يشغلون أعلى مراتب المسؤولية في الاجتماع السياسي الأمريكي في طليعتهم الرئيس السابق والمرشح الفائز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة دونالد ترامب، ونفر من أنصاره وبطانته السياسية.

بالنسبة لهذا الرجل ومؤيديه، يقع المهاجرون عموماً، غير الشرعيين منهم خصوصاً، في أسفل الدرك الاجتماعي، فهم مجرمون ولصوص.

هذه المقاربة التحريضية، تكفي لوضع القائمين بها تحت طائلة القوانين المناهضة للفتن، فضلاً عن اشتمالها على شحنة من السب، في دولة نهضت أصلاً على أكتاف الهجرة والمهاجرين، ومع ذلك، نطق خطاب ترامب الجماهيري الشعبوي بين يدي حملته الانتخابية، بما هو أدهى وأبعد في تداعياته على القوام الأيديولوجي وسلامة كينونة المجتمع الأمريكي برمته، نقصد بذلك تصنيف المهاجرين والأجانب، ومجتمعاتهم الأم بالتداعي، على نحو يضعهم في أسفل «الدرك الإنساني».. باعتبارهم من ذوي الجينات السيئة، التي تصنع منهم مجرمين وقتلة بالوراثة.

من أجل الوصول إلى عرش البيت الأبيض، لم يتورع ترامب وبطانته عن الاستعانة بخطاب تمايز عنصري، ولنا هنا أن نتصور أي مصير ينتظر مجتمع تتفشى في أحشائه وتضاعيفه ثقافة التمييز وترتيب المكانات بحسب الأصول الجينية، وما يتصل بها، حقاً أو ادعاء، من اختلاف في الألوان والسحن والأديان والمعتقدات؟!

نظن أنه لا توجد وصفة أكثر نجاعة من هذه الوضعية البائسة، لتحويل الحلم الأمريكي إلى كابوس، هذا ما لم تتم عملية استدراك وتصحيح للبوصلة، أساسها التفرقة والفصل ما بين الخطابات الدعائية لمرحلة ما قبل الانتخابات عما بعدها.