رجال »العبرة« في المرفأ التقليدي العريق بديرة، وعلى الرصيف المائي في الجهة المقابلة من بر دبي، هم حُراس ذاكرة الخور وسدنة المكان وكتبته العابرون على الماء يدونون بمجاديفهم تاريخه ويخطونه دائماً بحبر الروح، سفراءُ بسطاء متجولون يسردون حكاية أثيرة من سِفر دبي في بواكيرها الأولى.

بين روافده القديمة، يخرجون من سُدف الغبش في أول النهار، ومن غلالات الغروب يحومون كنوارس ألفت المصب منذ عهد بعيد، وفي قِطع من الليل حالك يعيدون قصص »نواخذة« خبروا أسرار البحر، يقفون بصلابة مُستمدة من روحه، يحيون السائحين والزوار بأوجه سمراء لفحتها الشمس يفكون الحبال كطلاسم بتؤدة وتريث ويطوفون من الشاطئ إلى صعيده المقابل في رحلات مترعة يقدمون من خلالها رحلة عبر الزمن، ونظرة تأملية هادئة تشي بتفاصيل التاريخ والأمكنة.

أقطع تذكرتي، تدور مروحة محرك الزورق، مخلفة دوائر متسعة وأزيزاً متصاعداً، فتتلاشى وراء الرصيف البحري المباني بالتدرج كلما غمر الزورق الخشبي العتيق اليم، وعلى كتف البراجيل وظلالها الراقدة على حواف ليل سوق المدينة القديم يبزغ طيف قمر مُكتمل، يسامر النسيم الخفيف المنعش والأضواء المتلألئة على الماء وهمهمات الغرباء الحميمة، وصدى ترانيم موسيقية مصدرها مقاه عائمة بعيدة وقريبة في آن.

رحلات مُنعشة تبعث الهدوء والسكينة في النفس ونزهات بنكهة تاريخية ومعرفية، مُشبعة بالحنين يقدمها مطوفو »العبرة« الجائلون، تفتح في الذهن والذاكرة نوافذ على لجة الشوق في ذكريات الفريج بديرة وسمت الهوى والقصيدة ببر دبي والتاريخ والأصالة بالشندغة والبراح الأثير كل صيف لدوحة »المقيظ« ووقيتاتهِ الجميلة في البراحة.