«ماتيلدا» الفتاة القصيرة جداً في قامتها، والمنبوذة، قادت يوماً طفولة العالم، لأنها باختصار قارئة، بل لم تتوقف عن القراءة، ولم يعنيها التلفاز، ولم تلعب الألعاب الممتعة التي تقتل الوقت، ولعل مبالغات الأحداث في الحكاية (حكاية ماتيلدا) التي كتبها الكاتب «روالد دال» هي مبالغات لطيفة يصعب تصديقها، لكنها مدروسة وفي غاية الأهمية، بأن ماتيلدا التي لم تبلغ الخامسة بعد، قد قرأت موبي ديك للروائي العميق هرمان ميلفيل.
كما كان على رف مكتبتها كتب مستعارة من المكتبة العامة قرب البيت، وعناوين لكلاسيكيات الأدب، مثل كبرياء وتحامل لجين أوستن، والحديقة السرية لأوليفر تويست، وأغلب عناوين تشارلز ديكنز... وأنها علّمت نفسها القراءة، واستطاعت أن تجري عمليات حسابية كبيرة من رأسها، وبحلول الخامسة من العمر تكون قد قرأت أكثر من 12 كتاباً من أهم الآداب المعروفة.
ومع ذلك كانت هادئة وطيبة، وكأن الحكاية تقول الذكاء والإبداع بحاجة إلى لطف ومرونة، خاصة مع والديها المشغولين بالمادة وبأي شكل، لتُحدث «ماتيلدا» فرقاً هائلاً في رؤية أجيال من أطفال القرن العشرين، منذ تحريكها الأشياء حولها بعقلها وعينيها كما الحكاية، والمعنى (فكرها ورؤيتها)، وعن حجم جسدها الصغير الذي لا يعني شيئاً، وذهنها الذي ينمو أكثر من أي شيء، وبأننا لن نرى الجميع قارئاً.
بينما المحب للقراءة لن يتوقف عن القراءة من أجل من حوله، وتصبح صدمة الطفولة هي المحاصرة من الآخرين والعلاقات المعقدة، لعدم فهمهم حالة المُطالِع، ومن المحزن أن يتم التنمر عليه والتلاعب به، إلا إذا تَبَنّى أحد العارفين من العائلة أو المسؤولين بوضع القارئ المكان الأفضل لذهنه، سواء كان طالباً أو موظفاً، فشخصيته مختلفة وبالتالي له سلوك خاص.
، فمن يقرأ بحجم «ماتيلدا» يصبح بلا شك فريداً وقديراً، ولن يتغير التفكير الإنساني سوى بالقراءة، فالتاريخ يشهد على رؤية البعض السلبية، بأن القارئ هو الشخص المعقد أو المهلهل أو المتعالي، وأحياناً المنبوذ، وبدلاً من الاحتفاء بالمختلف، نجد أن تفوقه يؤلم البعض، وتبقى حكاية (ماتيلدا) التي تبنتها معلمتها أخيراً، هي التنبيه بما تفعله القراءة بالإنسان، وخاصة في الفترات المبكرة.