الصدق في السيرة ركن ركين، وأساس متين، وسِمة من سمات الكتاب المتقنين؛ لأن الأسلوب، مهما كان قوياً، وجميلاً، ومحبوباً، فإنه لا يصل إلى الآذان، ولا يدخل القلوب، ما لم يعتمد على دعامة الصدق في المقروء والمكتوب.

وإذا ذهبنا نستلهم الصدق في الكتاب، ألفيناه يشيع في جنباته. قال المؤلف: «ومنهجي فيها التزام الصدق...، لا لأن ما أكتبه تاريخ مهم، بل لأنه يمثل تجربة إنسان حاول في كل خطواته أن يخلص للعلم».

وكتّاب السيرة ونقّادها لا يشترطون مطلق الصدق في السيرة، فغوته أديب ألمانيا وشاعرها سمى سيرته الذاتية «الشعر والحقيقة» اعترافاً منه أن الحياة مزيج من الصدق والكذب، والحقيقة والخيال، والتطيّر والفِئال.

وإذا كان ذلك كذلك، فإن تحري الصدق الخالص متعذر لأمرين؛ أولهما أن الصدق نسبي، فمهما يحاول الكاتب أن يكون أميناً في نقلها؛ فإنها -ولا بد- ستحمل في طياتها ما يعكر صفاءها، ويشيب نقاءها، ثانيهما أن كل بني آدم خطّاء، إنْ بقصد، أو بغير قصد. وقديماً قال الشاعر:

وما سُمّي الإنسان ‌إلا ‌لنسيه ... ولا القلبُ إلا أنه يتقلَّبُ

فمن منا يذكر عهد طفولته، ومن منا يتورع عن إخفاء ما لا قيمة له -في زعمه- ومن منا لا يستحيي من ذكر أشياء يُستحيا من ذكرها؟!

هاكَ سيرة القديس أوغسطين، فتحت للكتّاب آفاقاً خصبة للاعترافات الصريحة، والإقرارات القبيحة، وهذا روسو فعل الشيء نفسه، إلا أنهما انتُقدا بتشويههما للحقائق.

وقل ذلك في يوميات ‌جيد، التي أنفق فيها سنوات عمره، مصوراً نفسه بأخطائها وخطيئاتها، فقد عدّه بعض النقاد أنه ليس في كتّاب الاعترافات مثله، فضلاً عن أن يكون أحسن منه؛ ومع ذلك فقد تحيَّل في الصراحة، ليكيف في شكل التمثال الذي ينحته لنفسه، كلما تقدم في العمر، ويضع له قاعدة صلبة. ومثلهما تولستوي، وغوته، وسارتر، وغوركي، ولويس غروس، وغيرهم الكثير. ربما، لأجل ذلك، أو لغيره، كان تردد الراعي في كتابة غربته.