حين تَجوَّزَ أرسطو وأباح للشعراء ما لم يبح للخطباء؛ من الإسراف في الخيال، والإغراق في الخيلاء؛ تمسكوا بمقولة: «أعذب الشعر أكذبه»، وَعَدُّوا ذلك من البراعة الفنية، والمزايا الشعرية. ومع أن هذا مقرر عندنا، ومعمول فيه لدينا، إلا أن شعراءنا قد غالوا فيه، ووصلوا فيه إلى حد التيه. قال الخابز أرُزِّي:
ذبتُ من الشوق فلو زج بي
في مقلة النائم لم ينتبه
وكان لي فيما مضى خاتم
فالآن لو شئت تمنطقت به
وممن شاكلهما في ألفاظهما أبو الطيب المتنبي في صباه، حين قال:
أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدني
وفرق الهجر بين الجفن والوسن
روح تردد في مثل الخيال إذا
أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
كفى بجسمي نحولا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
يقول: إن الهوى أتلف بدنه يوم الفراق؛ من شدة الأسف.
ودعوى المتنبي ادعاها أغلب من قرأت لهم من الشعراء، فقلَّ من سلم من البين ومرارته، والعشق وحرارته!
وقال أيضاً:
فوا حسرتا ما أمر الفراق
وأعلق نيرانه بالكبود
ولم لا، وقد صدعَ الفراقُ قلوب الرِّفاق، وأصابهم منه لوعةٌ واحتراق. وقديما قالوا: «مَنْ راعهُ الفراقُ ملكهُ الاشتياقُ».
وقد اختلفوا في تعريف الهوى، واختلفت عباراتهم، وتباينت إشاراتهم، وحسبك أنه اجتمع في مجلس يحيى البرمكي ثلاثة عشر حكيماً، فسألهم عن حقيقة الهوى، فكل أتى بما عنده، دون أن يأتوا بطائل.
وجاء سلطان العاشقين فأخذ معنى المتنبي وزاده، قال:
كأني هلال الشك لولا تأوهي
خفيت فلم تهد العيون برؤيتي
وقال آخر:
نحلت فلو علقت في جفن ذرة
لطارت ولم شعر بأني علقت
قال صاحب العمدة: «وأحسن الإغراق ما نطق فيه الشاعر أو المتكلم بكاد أو ما شاكلها، نحو كأن ولو ولولا، ألا ترى ما أعجب قول زهير:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأحسابهم أو مجدهم قعدوا