زعمَ قومٌ: «أنَّ أعذبَ الشعر أصدقه»، وأجود الخيال أكثره اشتمالاً على الحقيقة. ولا يعنون بالصدق هنا مطابقة الواقع -كما يقول المناطقة- وإنما يريدون به صدق الترجمة عن الشعور، والإحساس الذي يهجس في القلب ويدور.
فأعذب الشعر في الواقع، هو الذي ينقل إليك ما يعتلج في نفس قائله، وما يتمثل في حسه وإدراكه لما حوله من الأشياء.
وعلى هذا، فإن قَدْرَ الشِّعر قدر ما يحمل من الصدق، وعلى قدره تكون عذوبته وحلاوته. والحق- بذاته- في غير حاجة للزيف والبهرج، وغنيٌّ عن هذا الطلاء المموه والزبرجد.
قال أديب العربية، مصطفى الرافعي: «ولعلماء الأدب العربي كلمة، ما أراهم فهموها على حقها، ولا نفذوا إلى سرها، قالوا: أعذب الشعر أكذبه، يعنون: أن قِوام الشعر المبالغة والخيال، ولا ينفذون إلى ما وراء ذلك، وما وراءه إلا الحقيقة رائعة بصدقها وجلالها، وفلسفة ذلك: أن الطبيعة كلها كذب على الحواس الإنسانية، وأن أبصارنا وأسماعنا وحواسنا، هي عمل شعري في الحقيقة، إذ تنقل الشيء على غير ما هو في نفسه، ليكون شيئاً في نفوسنا، فيؤثر بها أثره جمالاً وقبحاً وما بينهما،... فأعذب الشعر ما عمل في تجميل الطبيعة، كما تعمل الحواس الحية بسر الحياة».
قال الأصمعي: أصدق بيت قالته العرب، بيت أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
وقالوا: قول النَّابِغَة:
وَلست بمستبقٍ أَخاً لَا تلمه
على شعث أَي الرِّجَال الْمُهَذّب
وقالوا: بل قَول امْرِئ الْقَيْس:
الله أنجح مَا طلبت بِهِ
وَالْبر خير حقيبة الرحل
وَقَالوا: بل قول لبيد:
أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل
وكل نعيمٍ لَا محَالة زائل
أما أنا فأرجح قول حسان:
وأحسن منك لم ترَ قَطُّ عيني
وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مُبرّأ من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
اقرأ أيضاً: