في تاريخ الكتابة يندر التحدث مع النفس، وقلّ من يفعلها كتابةً، فالعبارات تتوسع مع الذات، وتخلق مقطوعة نثرية حوارية قلّ من يتقنها، نتيجتها خط فاصل بين عالمنا وعالم آخر لا نعرفه كفاية.
والأنشودة أغنية حوارية، أو حوار أشبه بصراع لفظي بين اثنين هما واحد، يرغبان بالمعنى الكامل، والفوز بالدروس، أو كما وصفها الشاعر والمفكر العماني سيف الرحبي في كتابه نشيد الأعمى:
من شروق الشمس حتى المغيب الأصفر، صفرة الورس، ورائحة الأرواح التائهة ...
«نشيد الأعمى» مؤلفة نثرية جدلية للرحبي، يتحاور فيها أعمى وأعمى آخر، يبدو هو ذاته، تخيله الشاعر بأنه القرين، يفهمان بعضهما، في عزلتهما المعتمة، حيث الكهوف واللا أحد، وتخيل كلاهما يعانيان من الضجر، ينتظران إشراقة الشمس ونثر ضوئها على الأرض بسحر نورها على الأرواح ... حوار أشبه بمخاطبة النفس، أو خلجات النفس، حين يخاطب الأعمى قرينه الأعمى، معاتباً الشمس، وهي تضيء كل تلك المساحات دون أن تمنحه قطرة ضوء واحدة لتضيء حفرة عينه المعتمة.
المذهل في نشيد الأعمى، وبرغم العماء، أنهما يصفان الأرض بشكل تأملي وهزلي، خاصة أثناء حديثهما عن العدالة، فينشدان نشيد العميان، يرددان في حماسٍ بليد:
(تعالي أيتها الظلمة فأنتِ ضوئي ....)
وهي مقطوعة نثرية هازئة عن الفرح المصنوع والمؤقت، ونص مهيب عن الحياة وعبثها بالإنسان، حتى يقفزان بالحوار إلى حوار علمي مع الطبيعة وكائناتها الصغيرة جداً، محللاً الإيقاع الموسيقي للنمل والنحل واليعسوب والذباب .. وكأن الرحبي يراجع أفكاره، أو لعله يراقبها.
في هذا الإطار وعلى امتداد اطلاعي في تاريخ الأدب، قرأت يوماً نشيداً كتبه قبل أربعة قرون شاعر إنجليزي يدعى جورج هيربرت وقد مات شاباً. كانت أنشودته تهدف إلى تمجيد شخص توفي، وفيه شيء من احتفال بانتصار أو حماس ... وكانت عن الموت، واصفاً الموت بالمسكين، ويلومه ويصفه بالخواء، ويستمر الحديث عن الموت بكل أشكاله ..
أما نشيد الأعمى فدهشته في سخريته بجدليته اللا نهائية، باختراعه الخصام والحب، وهو يبحث عن كل خاطرة وفكرة وعصا، نعم عصا، وهو يقترحها كدليل يستدل بها، ويجيب نفسه كيف وخريطة الأعمى هي جغرافيا مفتوحة على الظلام، مختاراً التخبط في الظلمة، فلا حاجة لعصا، عناداً بالشمس الناكرة للدجى، ويحضر السؤال في النهاية حول كيف ولد هذا العالم بسواده؟ من دمعة أو ضحكة أو ...
ونهاية ساخرة لنشيد مفتوح على الغبش.