نعاشر أجناساً مختلفةً من البشر، بعقولهم، قلوبهم وضمائرهم، وكل يوم يمضي بنا ويمر في ميدان الحياة نتعلم دروساً جديدة تبهرنا وتشكل شخصيتنا، نبني معرفةً ونتعمق أكثر ونفهم سلوكيات البشر من حولنا، تتحفنا بعض من قصصهم ونشمئز من بعضها الآخر، نخالط فكرهم، بعضهم يحيرنا بمكنونه، ونندهش بفكر آخرين، كل يوم نكبر فيه بالعمر نستنبط من الحياة حقائق جديدة، تصدمنا كثيراً، ولكنها تنير عقولنا، تمهد طريقنا، اختياراتنا الخاطئة، قراراتنا المستعجلة على حساب رصيد كبريائنا، عواطفنا الرخيمة، قلوبنا التائهة، بشر يتصيدون لنا على هيئة ضباعٍ تلهث لتنهش لحومنا، وبشر بالصفاء قد خلقوا وكانوا كالمنارة والهدى لنا، ألسنة تهدم همةً من الصفر وأخرى ترفعها.
كل يوم يتقدم بنا العمر نزداد قناعةً وإيماناً، أنه في هذه الحياة لا رهان مؤكد وأبدي سوى «أنت» ذاتك، نفسك، أنت الرهان الثابت والأبدي، أنت وحدك عكازك والجدار الذي تستند إليه، أنت الأهداف كلها وأنت أسباب السعي جميعها، فأنت ضماد الأيام وبعثرة البشر، الأمان، الحب والاستقرار كل ذلك فيك ومنك أنت، عليك ألا تنسى الحقيقة المؤكدة أيضاً ستحمل الحياة بأثقالها على ظهرك وكتفك وحدك، فأنت المدرسة وأنت الدرس.
قال تعالى جل جلاله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات 21]، أنت أقرب إلى نفسك أن تتدبر وتتفكر فيها، أنت أعجوبة خلق الله على هذه الأرض، خلقك بأحسن صورة فضّلك بعقلك، منحك من القوة والضعف، تملك من الخصال ما يجعلك تتعجب من نفسك، قدراتك، فكرك الذي إن أحسنت تغذيته واستخدامه لفاضت روحك راحة وطمأنينة، أنت صنيعة خلق الله على هذه الأرض، يكفيك عيشاً بالذلة والجهل، يكفيك عيشاً تحت رحمة حضور وغياب البشر، يكفيك عيشاً في غمرة الهم والكدر، ويكفيك هزيمة ويأساً، ما خلقنا لنجزع ونتألم، ما خلقنا لنتوه.
انظر لنفسك فأنت غنيمتك وأنت عجائبك السبع، راهن على نفسك وتمسك بها، ولا ترضَ لها إلا السمو والرفعة، لا ترضَ لها إلا مقاماً يرتقى بها وتخضر الروح بها، أنت أمانتك فلك عليك حق، لا ترفع ولا تنقص بأقوال الناس عنك أو بتقييمهم لك، ولا تتوقف الحياة عن المسير عند أول ضائقة، استمر في البذل والعطاء، تعلم، تطور، تقدم، لملم شتاتك وداوِ جراحك، خذ بيدك إلى رحاب الكريم بخلوة مع النفس تستجير بها الرحمن للهدى والصواب، كن أنت عالمك فلا يخفيك هجر المحبين ولا كيد الكارهين، أنت الرهان الأبدي فلا تحمل نفسك فوق طاقتك، ولا تسلم الآخرين مفتاحك فيخلفوا فيك دماراً يهلكك، أنت خط البداية والنهاية، ابتهج واملأ العالم بوهجك أملاً وخيراً.